أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مجال الرؤية

الكون المتوسع للعقل

يتأمل جوناثان باول في المكان الذي يتلاقى فيه فهمُنا المحدود مع الفضاء اللامحدود

كنوع حي، لم نستطع الكشف التدريجي عن أسرار الكون إلا من خلال نتائج ابتكاراتنا وإبداعاتنا البشرية، من دون عون أو مساعدة من شيء آخر؛ وهي إبداعات بدأت برسومات الكهوف القديمة التي صوّرت السماء، إلى تتبُّع حركات النجوم والكواكب لتصنع التقاويم الزمنية البسيطة، إلى الاستخدامات الزراعية، مع زراعة الحبوب وجني المحاصيل. ومع ذلك سرعان ما اتجهت العقول العظيمة، مثل بطليموس وكوبرنيكوس وكبلر، إلى محاولة تفسيرها، بدلاً من مجرد مراقبة نقاط الضوء في سماء الليل.

تفيد أحداث التسلسل التاريخي الكبيرة كومضات مهمة تذكِّر بعلاقة التوازي بين الكون والعقل البشري. كان الرسم التلسكوبي الذي خطه العالِم غاليليو Galileo لكوكب زحل في أوائل القرن السابع عشر، وخاصة لحلقاته، هو ”الضوء الأول“ للبشرية على جرم انتظر طوال بلايين السنين تقدم التكنولوجيا على الأرض بدرجة كافية لإنجاز مثل هذا الرصد. وقد أمكن معالجة حيرة غاليليو بشأن ما ظنه ”أذرع زحل“ بنحو مناسب، عندما سمحت ثورة الأدوات البصرية في ذلك الوقت لعالم الفلك الهولندي كريستيان هايغنز Christiaan Huygens بالإعلان في العام 1659 أن تلك ”الأذرع“ إنما كانت في الواقع حلقات. عندما فتح غاليليو ذلك الباب الأول، فتح هايغنز الباب الثاني؛ وتصاعد الزخْم مع مرور القرون، مما أدى في النهاية إلى مهمات بايونير، وفوياجر، وكاسيني هايغنز.

كتب الفيلسوف البيئي جون موير John Muir (1838 1914) أن ”أوضح طريق للوصول إلى الكون هو عبر الغابات البرية“. وتماماً كما ينير الطريقَ شعاعُ شعلةٍ يحملها مستكشفٌ يغامر متعمقاً في متاهات أعماق كهف، فإن الطريق إلى إدراكنا وفهمنا للكون يُكشَف خطوةً خطوة. لم تؤدِّ أعمدة الضوء هذه، النافذةُ عبْر مظلة الغابة إلى الأرض اكتشافات في رحلتنا فحسب، بل أدت أيضاً إلى تطوير وتحسين فهمنا ورؤيتنا لظواهر التقطناها بالفعل على بعد سنوات ضوئية، مثلما فعل التلسكوب جيمس ويب الفضائي JWST عندما حسَّن صور التلسكوب هابل الفضائي لأعمدة الخلق Pillars of Creation بنحو مثير للإعجاب. 

ولعل الأمر الأكثر وضوحاً هو أن نظرية النسبية لآلبرت آينشتاين، التي تنبأت بوجود ما أطلق عليه الفيزيائي الأمريكي جون ويلر John Wheeler لاحقاً اسم ”الثقوب السوداء“ Black holes، قد أمكن تقديمها لنا الآن في صورة، وذلك بفضل تلسكوب أفق الحدث Event Horizon Telescope. إن هذا يبدو دليلاً على أننا ربما نكون، في بعض الأحيان، متقدمين على الكون في تفكيرنا، ولكننا يجب ألا نكون مطلقاً ساذجين بما يكفي لنؤمن بنظريةٍ ما قبل ثبوت صحتها.

عندما ننظر إلى الكون، دعونا لا ننسَ أنه ينظر إلينا أيضاً، ولكن بطريقته. أحد مبعوثيه (باستثناء الجِرم أومواموا Oumuamua) كان هو المذنّب هالي. فمع كل جولة دورية لجسمه وذيله، يشهد هذا المذنّب نافذة عرض دائمة التغير للحياة على كوكب الأرض. ومع كل مرور له، كان هناك سكان مختلفون ينظرون إليه في السماء، مستخدمين أدواتٍ مختلفة لرصده، وأفكاراً مختلفة لتفسيره. 

تشير الدراسات الحديثة إلى أن الكون يتوسع بوتيرة أسرع مما كان متوقعاً من قبل، ولكن نظراً إلى إنجازاتنا الفلكية، وربما أكثر من ذلك، بسبب تقدمنا في تكنولوجيا رحلات الفضاء، فإن ذلك سيكون أكثر من مجرد إشارة إلى أننا ما زلنا قريبين كثيراً، بمعنى الإدراك العقلي والقدرات، من التوسع المتسارع للكون. 

جوناثان باول Jonathan Powell:
كاتب ومذيع مستقل. مراسل سابق لإذاعة BBC Radio في ويلز، وهو حالياً كاتب عمود في علوم الفلك في صحيفة ساوث ويلز آرغوس South Wales Argus

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى