إيقاظ تلسكوب ويب
حقَّق إطلاق ونشر تلسكوب جيمس ويب الفضائي نجاحاً هائلاً، ولكن لماذا لم نرَ صوره الأولى بعد؟ الجواب لدى غوفيرت شيلينغ Govert Schilling
أقوى تلسكوب يُطلَق إلى الفضاء، التلسكوب ويب جدير بخلافة هابل
التقطت كاميرات في المرحلة العليا من صاروخ آريان 5 صورة التلسكوب ويب وهو يبدأ رحلته التي يبلغ طولها 1.5 مليون كم إلى النقطة L2 بعد انفصاله عن الصاروخ في يوم 25 ديسمبر، 2021
بعد مضي 25 عاماً، وإنفاق أكثر من 10 بلايين دولار أمريكي، أُطلق أخيراً التلسكوب جميس ويب الفضائي James Webb Space Telescope (اختصاراً: التلسكوب JWST) إلى الفضاء في يوم عيد الميلاد من العام 2021، على متن صاروخ آريان 5 الأوروبي. وبسبب حجم مرآته الرئيسة التي يبلغ قطرها 6.5 م، ودرعه الشمسية التي هي بحجم ملعب تنس، كان لا بد من طي التلسكوب ويب ليلائم بنية الصاروخ، ليجري فتحه ونشره خطوة بخطوة في أول أسبوعين من مهمته (انظر: إطار ”فتح التلسكوب“ ص ب.ت). ومع ذلك، فإن خليفة تلسكوب هابل الفضائي لن يلتقط صوره الأولى للكون قبل أواخر يونيو أو أوائل يوليو، 2022، وهو ما يطرح السؤال: لماذا؟
يبدو الأمر كمدة انتظار طويل جداً، لا سيما منذ وصول التلسكوب ويب إلى مداره النهائي في يوم 24 يناير 2022. نجحت ثلاث عمليات مناورة للتصحيح- من منتصف مسار الرحلة- في وضع التلسكوب الفضائي الضخم في مدار بطيء الدوران حول نقطة لاغرانج الثانية (L2)، وهي نقطة استقرار جاذبي تبعد مسافة 1.5 مليون كم خلف الأرض كما تُرى من الشمس. يقول مارك ماكوفريان Mark McCaughrean، وهو كبير مستشاري العلوم والاستكشاف في وكالة الفضاء الأوروبية ESA، الشريك الرئيس لوكالة ناسا في برنامج التلسكوب: ”لكن هناك كثيراً يجب فعله قبل أن نتمكن من بدء العمليات العلمية“.
سيدور التلسكوب ويب حول النقطة L2، مع إبقاء الشمس والأرض والقمر خلفه للحصول على رؤية واضحة لأعماق الفضاء
على سبيل المثال، يجب تبريد التلسكوب وأدواته الحساسة، التي غادرت منصة إطلاق غايانا الفرنسية في ظروف حرارة مدارية، إلى درجة 230° تحت الصفر. وبفضل درعه الشمسية العملاقة متعددة الطبقات، بلغت حرارة التلسكوب ويب بالفعل درجة 200° بحلول أوائل شهر يناير، لكن تبريده السلبي يتباطأ بمرور الوقت. ويقول ماكوفريان إنها عملية دقيقة. على سبيل المثال ينبغي ألا تكون القطع البصرية مطلقاً هي أبرد أجزاء التلسكوب، وذلك خشية تجمد الجزيئات المُنبعثة كغازات من هيكل الدعم التركيبي الغرافيتي على مرايا التلسكوب، مما يؤدي إلى تدهور أدائها.
وعندما تبرد كاميرا الأشعة القريبة من تحت الحمراء Near infrared camera (اختصاراً: الكاميرا NlRCam) بدرجة كافية تسمح لأجهزة كشف الزئبق والكادميوم والتيلورايد الحساسة بالتقاط ضوء الأشعة تحت الحمراء، يمكن أن تبدأ عملية محاذاة Aligning مرايا التلسكوب، وعددها 18 مرآة. زودت كل مرآة سداسية منها بسبعة محركات، ويمكن إمالتها قليلاً وإزاحتها وتدويرها وتغيير شكلها لضمان عملها معاً كسطح مكافئ مثالي واحد One perfect parabolic surface. ونظراً لأن إجراء المحاذاة ينفذ باستخدام ضوء النجوم، فهذا سيمثل “الضوء الأول” للتلسكوب ويب. لكن الأمر سيأخذ شهوراً من عمليات ضبط الدقة المتزايدة قبل تجميع الصور النجمية الـ 18 المفردة من كل مرآة معاً في تركيز بؤري واحد One single focus.
اختبار المعدات
في أواخر شهر إبريل تقريباً، سيبدأ المهندسون أيضاً في تشغيل أربع أدوات علمية كبيرة على ويب: كاميرا التصوير بالأشعة القريبة من تحت الحمراء NlRCam، ومطياف الأشعة القريبة من تحت الحمراء Near infrared spectrometer (اختصاراً: المطياف NlRSpec)، أداة الأشعة تحت الحمراء المتوسطة Mid infrared instrument (اختصاراً: الأداة MIRI) (انظر الإطار المقابل) ومستشعر التوجيه الدقيق/جهاز التصوير بالأشعة القريبة من تحت الحمراء والمطياف اللاشقي Fine Guidance sensor/near infrared imaging and non-slit spectrum (اختصاراً: الأداة FGS/NIRISS). زود التلسكوب بمقسِّمات شعاعية beam splitters وفلاتر (مرشحات) Filter ومغالق صغيرة Micro-shutters، وجميعها لها أوضاع رصدية مختلفة، ويجب اختبارها ومعايرتها تماماً قبل تسليمها إلى علماء الفلك. يقول ماكوفريان: ”بالطبع، جرى اختبار كل أداة وفحصها على الأرض، لكننا في حاجة إلى إثبات أنها تعمل أيضاً بسلاسة في الفضاء“.
إذن ماذا عن تلك الصورة الأولى التي يُفترض فيها أن تثير إلهام العلماء والتي سيلتقطها التلسكوب الفضائي الجديد؟ حسناً، هذا غير متوقع إلا بعد ستة أشهر تقريباً من إطلاق التلسكوب، والتي ستكون في أواخر شهر يونيو أو أوائل يوليو. ووفقاً لماكوفريان: “ما سيظهره لنا التلسكوب هو سرٌ مكنون. على الأرجح ستكون الصورة لنوع من مناطق بناء النجوم”.
علماء الفلك ينتظرون بفارغ الصبر للتدرُّب على لعبتهم الجديدة والباهظة واختبارها على أجرامهم المفضلة
مجدداً يعتقد ماكوفريان أن ناسا قد تُقرر في النهاية نشر صورة اختبار مبكر، أو صورة محاذاة في وقت ما. ويقول: ”كلما استغرق الأمر وقتاً أطول، سيعتقد الناس أن هناك خطأ ما. وقد يكون هناك بعض الضغط السياسي على ناسا لعرض شيء ما في مرحلة مبكرة- من الأفضل الاستعداد لذلك“.
على كل، لن تبدأ الجولة الأولى من الأرصاد العلمية قبل الصيف. وينتظر علماء الفلك بفارغ الصبر للتدرُّب على لعبتهم الجديدة باهظة الثمن واختبارها على أجرامهم الفلكية المفضلة، سواء كانت مجرة بعيدة في زمن فجر التاريخ، أو قرصاً نجمي يلد كوكباً، أو غلافاً جوياً لكوكب نجمي، أو كائناً مقيماً في القسم الخارجي من مجموعتنا الشمسية.
مع بقاء مزيد من الوقود بعد عملية الإطلاق الدقيقة لصاروخ آريان 5، يمكن للتلسكوب JWST أن يعمل في مداره عند النقطة L2 فترةً أطول بكثير مما كان متوقعاً له
مجال الاهتمام
يحظى التلسكوب ويب بمرونة توجيه أقل مما هي للتلسكوب هابل: نظراً إلى أن التلسكوب يجب أن يوجه بعيداً عن الشمس للحفاظ على برودة أجهزته باستمرار، فإن ”مجال اهتمامه“ سيغطي 40% من السماء في أي يوم ما، وسيستغرق الأمر نحو 6 أشهر للوصول إلى تغطية السماء كلها.
والخبر السار هو أن التصحيحات التي أجريت في أثناء منتصف مسار رحلة التلسكوب ويب قد استهلكت وقوداً أقل مما كان متوقعاً، مما يعني أنه ما زال هناك مزيد منه لإبقاء التلسكوب الفضائي في مداره عند النقطة L2. ونتيجة لذلك، قد يمتد العمر التشغيلي لما بعد فترة التشغيل المتوقعة والبالغة 10 سنوات. ولكن، فإن النتائج المثيرة التي لا بد أن يقدمها ويب ستعوض انتظار مدة نصف العام الذي نمر به الآن.
بقيادة المملكة المتحدة، بنى الشركاء الأوروبيون إحدى الأدوات الرئيسة للتلسكوب ويب
تثبيت الأداة MIRI (في اليسار) ضمن وحدة الحمولة العلمية التابعة للتلسكوب ويب في مركز غودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة ناسا، في العام 2013
جهاز رصد الأشعة تحت الحمراء المتوسطة Mid Infrared Instrument (اختصاراً: الأداة MIRI) هي المساهمة الأوروبية الرئيسة على التلسكوب ويب، فضلاً عن صاروخ الإطلاق آريان. تتكون الأداة من كاميرا ومقياس طيفي معاً، صُمما وبُنيا من قبل تجمُّع 10 دول أوروبية، تقوده المملكة المتحدة، بالتعاون مع وكالة ناسا. تمكِّن دقة قياس الطيوف العالية للأداة MIRI من تحديد مجموعة كبيرة من الجزيئات في مناطق بناء النجوم وأقراص الكواكب الأولية والأغلفة الجوية للكواكب النجمية. الباحثة الرئيسة القائمة على عمل الأداة هي البروفيسورة جيليان رايت Gillian Wright، من مركز تكنولوجيا علوم الفلك في إدنبرة، المملكة المتحدة. تقول د. جيليان: ”لا يمكن تحقيق ما توفره قدرات الأداة MIRI باستخدام التلسكوبات الأرضية، فالغلاف الجوي للأرض فعال جداً في حجب الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء المتوسطة. كما أن التلسكوبات غير المبردة الموجودة على الأرض تبثُّ أيضاً الأشعة تحت الحمراء المتوسطة الخاص بها؛ وكي تحقق هذه التلسكوبات ما ستحققه الأداة MIRI فإن الأمر سيكون أشبه بالبحث باستخدام تلسكوب مشتعل. التلسكوب ويب بارد، بعيد عن الغلاف الجوي للأرض، مما يجعل الأداة MIRI أكثر حساسية بمئات المرات من أي أداة أخرى مشابهة“. ولكي تكون بهذه الدرجة من الحساسية، يجب تبريد الأداة MIRI إلى 6.7° فوق الصفر المطلق، أو 266.5°. ونظراً إلى أن الدرع الشمسية الخاصة بالتلسكوب ويب لن توفر سوى حرارة منخفضة تصل إلى 230°، فإن الأداة تحتوي أيضاً على مبرِّد فائق التبريد Cryo-cooler، يعمل مثل الثلاجة. وستمكِّن مجموعة من أربع أدوات قياس الإكليل Coronagraph من دراسة الكواكب النجمية من دون أن ”يعميها إشعاع النجوم المضيفة“. كانت الأداة MIRI أول أداة يستكمل صنعها وتثبيتها على التلسكوب ويب في الولايات المتحدة في العام 2013، وذلك بعد جولة نهائية من الاختبارات في مختبر رذرفورد آبلتن Rutherford Appleton في أوكسفوردشاير.
صحافي ومذيع لبرامج علمية فلكية، ومؤلف كتاب تموجات في الزمكان Ripples in Spacetime.