علماءُ روّادٌ في أبحاث المادة المعتمة
صِيغ مصطلح ”المادة المعتمة“ في مثل مايو منذ قرن. يختار هنا غوفرت شيلينغ سبعة علماءَ سلطوا الضوء على أكبر لغز في علم الفلك
المادة المعتمة Dark matter هي ما يجعل الكون يدور. إنها تمثل 85% من المحتوى المادي لكوننا. فقد استطاعت بقوة جاذبيتها أن تُنشئ بنية كونية، وأن تمنع المجرّات والعناقيد المجرية من التحليق بعيداً. رسم علماء الفلك خريطة لتوزع المادة المعتمة من خلال دراسة مفعول عدسات الجاذبية Gravitational lensing- انحناء ضوء النجوم بفعل تأثير جاذبية الأجرام الضخمة في الفضاء- ولكن أحداً لم يرَ مطلقاً هذه المادة الغامضة، لأنها لا تبعث الضوء، ولا تمتصه، ولا تعكسه. في هذا المقال سنُلقي نظرة على سبعة من الأصوات الرائدة التي ساعدت على تقدُّم الأبحاث لفهم المادة المعتمة.
صاغ مصطلح ”المادة المعتمة“
أشار عالم الفلك الهولندي جاكوبُس كابتين Jacobus Kapteyn مبكراً إلى مصطلح ”المادة المعتمة“ في ورقة بحث نشرها في مجلة الفيزياء الفلكية Astrophysical Journal عن بنية مجرتنا درب التبانة. نُشر البحث بتاريخ 1 مايو، 1922، قبل أسابيع قليلة من وفاته.
نشأ جاكوبُس الصغير، الذي كان واحداً من 15 طفلاً في أسرته، في مدرسة داخلية خاصة يديرها والداه. في العام 1878 عُيِّن أستاذاً لعلم الفلك في جامعة غرونينغن University of Groningen، لكن كان ينقصه المال لشراء تلسكوب مناسب. وبدلاً من ذلك انضم إلى عالم الفلك الإسكتلندي ديفيد غيل David Gill، الذي صوَّر السماء الجنوبية من مرصد كيب Cape Observatory في جنوب إفريقيا. باستخدام آلة قياس لوحية يدوية، أمضى كابتين 5 سنوات ونصف السنة في قياس مواقع 454,875 نجماً بدقة- وهي محاولة رائعة أدت إلى إنتاج مسح كيب الفلكي التصويري Cape Photographic Durchmusterung (اختصاراً: المسح CPD)- وهو أكبر وأدق فهرس نجمي في ذلك الوقت.
في وقت لاحق، درس كابتين بنية مجرَّة درب التبانة، بالعمل مع عالم الفلك الأمريكي جورج إليري هيل George Ellery Hale في مرصد ماونت ويلسُن Mount Wilson Observatory في كاليفورنيا. وفي ورقته البحثية الأخيرة، قدَّم نموذجاً يُعرَف الآن باسم ”كَون كابتين“ Kapteyn Universe: وهو مجرَّة درب تبانة صغيرة نسبياً تكون الشمس فيها قريبة من مركزها، ولا يوجد شيء خارج حافتها الخارجية.
وعلى الرغم من أنه سيتضح لاحقاً أن هذا النموذج خاطئ تماماً، فإن كابتين أدرك أن دراسة حركات النجوم ستكشف عن الكتلة الكلية للنظام. وكتب في ورقته البحثية في شهر مايو من العام 1922: ”يُقترح بالمصادفة أنه عند إكمال النظرية، فقد يكون من الممكن تحديد كمية المادة المعتمة من تأثير جاذبيتها“. وهكذا وُلد لغزُ المادة المعتمة.
أدرك أن المجرّات يجب أن تكون أكبرَ مما تبدو عليه
وُلد فريتز زويكي Fritz Zwicky في بلغاريا لأبوين سويسريين، وانتقل إلى الولايات المتحدة في سن السابعة والعشرين لمساعدة العالِم الحائز جائزةَ نوبل، روبرت ميليكان Robert Millikan، في دراساته لفيزياء الحالة الصلبة في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا California Institute of Technology (اختصاراً: المعهد Caltech). كان هذا المعهد ذاته موطناً لعلماء الفلك البارزين مثل جورج إليري هيل George Ellery Hale، وإدوين هابل Edwin Hubble، ووالتر بادي Walter Baade. وقبل أن يمضي وقت طويل، أدمن زويكي علم الفلك، وأصبح نجماً بارزاً بذاته، يدرس انفجارات السوبرنوفا، ويتنبأ مع بادي بوجود النجوم النيوترونية.
باستخدام تلسكوب هوكر Hooker Telescope، الذي يبلغ قطر مرآته 2.5 م، في مرصد ماونت ويلسن، استطاع تسجيل سرعة المجرّات المفردة في عنقود كوما Coma Cluster المجرِّي، وذلك بقياس تأثير دوبلر Doppler effect – وهو تغيُّر ضئيل في الطول الموجي لضوء المجرَّة. هكذا سيكون الانتشار المرصود للسرعة داخل العنقود هو قياساً لكتلته الكلية.
وقد تبين أن مجرّات عنقود كوما كانت تتحرك أسرع بكثير من المتوقع على أساس المحتوى المرئي للعنقود. ولمنع عناصر العنقود من التباعد والتشتُّت، فهو سيحتاج إلى كميات هائلة من كتلة غير مرئية- ”مادة معتمة“ Dark matter، كما كتب زويكي في بحثه في العام 1933 في مجلة سويسرية مغمورة إلى حدٍّ ما.
تَحقق التوصل إلى نتائج مماثلة في مجرتنا قبل ذلك بعام على يد جان أوورت Jan Oort، أحد طلبة كابتين، (والذي اشتهر بإطلاق اسمه على سحابة أوورت Oort Cloud). وفي وقت لاحق قاد عمل سنكلير سميث Sinclair Smith في مرصد ماونت ويلسن على عنقود العذراء المجرِّي إلى النتيجة نفسها.
ومما يثير الدهشة والاستغراب أن علماء الفلك أهملوا لغز المادة المعتمة إلى حد كبير طوال عقدين تقريباً.
قاست أطرافَ المجرّات ووجدت أنها تدور بنفس سرعة دوران مراكزها
أحبَّت فيرا روبن Vera Rubin مراقَبةَ النجوم، عندما كانت طفلة. أما في العام 1948، فكانت جامعة برينستُن Princeton University لا تزال ترفض قبول طالبات الدراسات العليا في قسم علوم الفلك، ولذا فقد التحقت فيرا بجامعة كورنل Cornell University بدلاً منها، وحصلت بعد ذلك على درجة الدكتوراه من جامعة جورج تاون Georgetown University. وهناك حصلت على وظيفة في معهد كارنيغي Carnegie Institution التابع لإدارة المغناطيسية الأرضية بواشنطن، حيث التقت مصممَ المعدات والأجهزة كينت فورد Kent Ford، الذي كان يطوِّر أنبوباً إلكترونياً للصور من شأنه أن يسمح بالدراسة الطيفية للأجرام الفلكية الخافتة.
ابتداءً من أواخر العام 1966، أخذ كل من روبن وفورد يسافران بالسيارة بانتظام على طول الطريق إلى ولاية أريزونا لإجراء قياسات طيفية لسُحُب الغاز المفردة المتوهجة في مجرَّة المرأة المسلسلة Andromeda Galaxy، وتركيب أنبوب التصوير الكبير على التلسكوبات في مرصد لويل Lowell Observatory، بالقرب من فلاغستاف، وفي مرصد كيت بيك الوطني Kitt Peak National Observatory بالقرب من توسون Tucson. وقد قدما نتائجهما الأولى في اجتماع الجمعية الفلكية الأمريكية (AAS) في شهر ديسمبر من العام 1968.
وعلى مدى العَقد التالي صار واضحاً، أكثر من أي وقت مضى، أن مجرة المرأة المسلسلة لها ”منحنى دوران مسطح“ Flat rotation curve: تدور الأجزاء الخارجية من المجرَّة بسرعة دوران الأجزاء الداخلية، في حين أن فهمَنا لقوة الجاذبية يشير إلى أن المناطق الخارجية يجب أن تدور بسرعة أبطأ إذا كانت النجوم هي الأشياء الوحيدة الموجودة. وهذا يشير إلى احتواء المجرَّة على أكثر مما تراه العين. وكتبت روبن وفورد في بحثٍ نُشر في مجلة الفيزياء الفلكية Astrophysical Journal في العام 1980، بالاشتراك مع نوربرت ثونارد Norbert Thonnard: ”لا مفر من استنتاج أنه تُوجَد مادة غير منيرة فيما وراء المجرَّة المرئية“.
في وقت وفاة روبن، في العام 2016، وصفتها عالمة الفيزياء الفلكية في جامعة برينستن نيتا باهكال Neta Bahcall بأنها ”أم منحنيات التدوير المسطحة والمادة المعتمة“. ولم تتوانَ روبن قط في الإشارة إلى الأرصاد المهمة جداً والداعمة لها التي أجراها علماء الفلك الراديوي الذين توصلوا إلى النتيجة نفسها.
اكتشف أن الكَون القديم لا يتوافق مع ما نراه حالياً
وُلد جيمس بيبلزJames Peebles في وينيبيغ Winnipeg، في كندا، والتحق بجامعة برينستن في العام 1958. كان هو مؤسسَ ما يُعرَف الآن باسم “الكوزمولوجيا الفيزيائية” Physical cosmology- الذي يدرس ولادة الكون وتطوره بالاستعانة بأبحاث الفيزياء النظرية.
في العام 1973 أظهر بيبلز، بالاشتراك مع زميله جيري أوستريكر Jerry Ostriker، عالمِ الفيزياء الفلكية في جامعة برينستن، أن المجرّات القرصية Disc galaxies، مثل مجرتنا درب التبانة أو مجرّة المرأة المسلسلة، لا يمكن أن تكون مستقرةً إذا لم تكن مغمورة ضمن هالات عملاقة من المادة المعتمة. وفي العام 1974، أجرى العالمان، بالاشتراك مع العالم عاموس ياهيل Amos Yahil، أول تقدير موثوق به لكثافة كتلة الكون.
درس بيبلز الخلفيةَ الميكروية الكونية CMB- أثراً متبقياً من الانفجار الكبير Big bang- إذ يمكن أن يوضح ذلك ما إذا كانت التذبذبات الصغيرة في كثافة المادة في الكون البدئي Primordial Universe هي التي ستتطور جاذبياً إلى عناقيد المجرّات والعناقيد الفائقة التي نراها حالياً.
الحل الذي تقدم به: المادة المعتمة يجب أن تكون مادة باردة (تتكون، مثلاً، من جسيمات بطيئة الحركة نسبياً)، وهي بالكاد تتفاعل مع المادة ’العادية‘ (التي تسمى بالمادة الباريونية Baryonic)، باستثناء تفاعلات الجاذبية. في هذه الحالة يمكن أن تبدأ كتل من المادة المعتمة في التكوُّن قبل انطلاق إشعاع الخلفية الميكروية الكونية CMB. وفي مرحلة لاحقة، سيسقط الغاز في آبار الجاذبية هذه، مما يؤدي إلى الكون البنيوي الذي نراه حالياً.
جمعت أدلة شاملة تشير إلى أن المادة المعتمة حقيقية
في أوائل السبعينات القرن العشرين، عملت ساندرا فيبر Sandra Faber، التي كانت طالبة دكتوراه بجامعة هارفارد، مؤقتاً في قسم المغناطيسية الأرضية في جامعة كارنيغي في واشنطن العاصمة، حيث تعرفت على قياسات منحنى الدوران لروبن وفورد. درست فيبر المجرّات الإهليلجية، واكتشفت أنها أيضاً تبدو كأنها مغروسة في هالات مادة معتمة.
بعد انتقالها إلى جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، كتبت فيبر مع جون غالاغر John Gallagher مقالة مراجعة كبيرة الأثر عن المادة المعتمة قدمتها إلى دورية المراجعات السنوية لعلم الفلك والفيزياء الفلكية Annual Reviews of Astronomy and Astrophysics، والتي نُشرت في العام 1979. وبتقديم معظم الأدلة المتاحة، أقنع المؤلفان المجتمع العلمي بأن المادة المعتمة ليست مجرد نسج من خيالنا، بل هي مكوِّن رئيس وحقيقي للكون.
بعد خمس سنوات، في العام 1984، شاركت فيبر بتأليف ورقة بحث علمية أخرى، هذه المرة في دورية نيتشر Nature. فبالاشتراك مع جورج بلومنتال George Blumenthal، وجويل بريماك Joel Primack، ومارتن ريس Martin Rees، قدمت وصفاً لتطور كَون بارد تهيمن عليه مادة معتمة. أعطت الورقة وصفاً تفصيلياً لبناء عناقيد النجوم الكروية والمجرّات والعناقيد المجرية، بل ناقشت أيضاً العناصر المرشحة المحتملة لـ”المادة المعتمة الباردة” التي افترضها جيمس بيبلز.
كتب المؤلفون: ”لقد أظهرنا أن الكون الذي يحتوي على المادة المعتمة الباردة التي تعادل ما يقرب من 10 أضعاف المادة الباريونية يقدِّم ملاءَمةً جيدة بنحو معقول للكَون المرصود“، واستنتجوا أن صورة المادة المعتمة الباردة ”تبدو كأنها أفضل نموذج متاح ويستحق التدقيق والاختبار من كثَب“.
لا تبحث عن المادة المعتمة في السماء، بل في أعماق الأرض
وُلدت الفيزيائية الإيطالية إيلينا أبريلي Elena Aprile في ميلانو، وعملت في مختبر سيرن CERN (المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات، بالقرب من جنيف)، وانتقلت إلى الولايات المتحدة في العام 1983. وفي جامعة كولومبيا في نيويورك، ساعدت في بناء تجارب بالونية تستخدم الغازات النبيلة، مثل الآرغون Argon والزينون Xenon، لاكتشاف هذه الجسيمات، وجسيمات النيوترينو Neutrinos، وأشعة غاما Gamma rays.
عندما علمتْ في العام 2011 بتجربة زيبلين ZEPLIN البريطانية في منجم بولبي في يوركشاير، وهو جهاز كاشف يعتمد على غاز الزينون للبحث عن جسيمات المادة المعتمة، تحولت فجأة لتبدأ تجربتها الخاصة بالمادة المعتمة، وذلك بالعمل مع ريتشارد غيتسكل Richard Gaitskell من جامعة براون، وآخرين غيره.
في العام 2010، بدأ تركيب أول كاشف كامل النطاق للمجموعة في نفق غران ساسو Gran Sasso Tunnel، في جبال الأبينين Apennines الإيطالية، بطريقة تحميه من الأشعة الكونية والاضطرابات المحتملة الأخرى. وعلى مدار العَقد الماضي، أنشأ فريق أبريلي نسخاً أكبر وأكثر حساسية من كاشفهم الأول. (يقود غيتسكل الآن مشروعه الخاص بالولايات المتحدة في منجم ذهب قديم في ولاية ساوث داكوتا). وصارت النسخة الحالية من الكاشف، التي يُطلَق عليها اسم الكاشف XENONnT، جاهزة للعمل في العام الماضي. ومثل أسلافه يبحث هذا الكاشف عن ومضات ضوئية وجيزة يجري توليدها عندما يصطدم جسيم المادة المعتمة بنواة ذرة الزينون- وهو تفاعل نادر جداً.
وإلى الآن لم تُرصَد أي إشارة مقنعة لوجود مادة معتمة، لكن أبريلي لم تستسلم. فخطط تجربة أكبر، تُسمى بتجربة داروين Darwin، هي الآن قيد الدراسة على لوحة الرسم والتخطيط.
تساءل عما إذا كنا فعلاً في حاجة إلى مادة مظلمة في النهاية
عندما زار عالم فيزياء الجسيمات موردهاي ميلغرُم Mordehai Milgrom جامعة برينستن في العام 1980، تعرَّف على منحنيات الدوران المسطحة ولغز المادة المعتمة أولَ مرة. لكن بدلاً من التنظير حول الجسيمات الافتراضية، سأل ميلغرُم نفسَه: ماذا لو كانت أفكارنا عن الجاذبية خاطئة؟
في صيف العام 1983، نشر موردهاي نظريته MOND (الديناميكيات النيوتونية المعدلة) في مجلة الفيزياء الفلكية The Astrophysical Journal. وفقاً لنظرية MOND، تنخفض قوة الجاذبية بمعدل أبطأ بكثير مع المسافة (ليس مثل 1/r2، ولكن مثل 1/r) في بيئات الجاذبية الضعيفة، مثل الأجزاء الخارجية من المجرّات. هذا التكيُّف البسيط نسبياً (وإن كان مخصصاً إلى حد ما) لقوانين نيوتن يفسر تماماً منحنيات التدوير المسطحة التي وجدتها روبن وفورد وزملاؤهما في علم الفلك الراديوي، من دون أي حاجة إلى مادة معتمة غامضة.
وعلى الرغم من المحاولات العديدة، لم يتمكن أحد حتى الآن من إثبات خطأ النظرية MOND، من دون أن يعني هذا أن النظرية لا تواجه أي مشكلات. فعلى سبيل المثال لا يزال ميلغرُم ومؤيدوه في حاجة على الأقل إلى بعض المادة المعتمة (الباريونية Baryonic) في عناقيد المجرّات، ولم ينجحوا تماماً في صياغة نسخة ’نسبية‘ أنيقة من نظريتهم.
ومع ذلك فإن نجاحات النظرية MOND في شرح منحنيات تدوير المجرَّة إنما هي مثيرة للإعجاب، وقد يكون ميلغرُم مصيباً في فكرة ما. إن كان الأمر كذلك فقد يكون بحثنا عن المادة المعتمة طَوال قرن من الزمن عملاً غير واقعي، وقد ينتهي الأمر بميلغرُم إلى دخول كتب تاريخ علم الفلك باعتباره رائد حقبة جديدة في فهمنا للكَون. لكن الوقت فقط هو ما سيثبت لنا ذلك.
غوفرت شيلينغ Govert Schilling:
صدر كتابه بعنوان الفيل في الكون The Elephant in the Universe بتاريخ 31 مايو عن مطابع جامعة هارفارد.
تعليق واحد