أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مجال الرؤية

صنع موجات راديوية

يعرض لنا جوناثان باول قصة اكتشاف علم الفلك الراديوي

كانت الاحتمالات الكامنة في أصوات الخشخشة والهسهسة الأولى التي أحدثها اختراع الراديو واضحة جداً بالنسبة إلى أولئك الذين تمكنوا من تصوُّر الإمكانات الحقيقية التي ينطوي عليها هذا الاختراع: فما بدأ كطريقة ثورية جديدة للاتصال سيصل في آخر الأمر إلى النجوم. ولكن في وقت ولادته في أواخر القرن التاسع عشر، لم يتوقع أحد أننا سنكتشف موجات الراديو تتموج عبر الفضاء مقبلةً نحو الأرض؛ وسيتطلب الأمر عقوداً أخرى لبناء أداة لسماعها.

في الأيام الأولى للإذاعة تنافس عقلان عظيمان على الشهرة: المهندس الصربي الأمريكي نيكولا تِسلا Nikola Tesla (1856-1943)، والمخترع الإيطالي المهندس غوغليلمو ماركوني Guglielmo Marconi (1874-1937). وبعد مُشادة كلامية حادة بين الاثنين خارج الهواء، حصل ماركوني في النهاية على براءة اختراع الراديو في العام 1896.

غير أن عبقرية عالِم آخر، هو الفيزيائي الأمريكي كارل يانسكي Jansky (1905-1950)، كانت هي التي نقلت الراديو إلى مستوى آخر. ففي أوائل ثلاثينات القرن العشرين، كلفه أصحاب العمل في مختبرات بل للهواتف Bell Telephone Laboratories بتحديد مصدر التداخل في اتصالاتهم الراديوية بالموجات القصيرة، التي كانت تُبث عبر المحيط الأطلسي.

وباستخدام هوائي كبير، صنعه بنفسه، مثبت على طاولة دوارة تعمل بمحرك أطلق عليها اسم ”دوّامة يانسكي“ – التقط التداخل، ووصفه بأنه ”صوت هسهسة ثابت جداً، مجهول الأصل“. ثم أفاد بادعاء مذهل ادعاء كان يعني أن رؤساءه احتاجوا إلى الجلوس بسرعة بعد سماعه. فقد اعتقد يانسكي أن التداخل كان في الواقع ”يأتي من خارج المجموعة الشمسية“.

في يوم 5 مايو 1933، تصدرت أخبارُ اكتشاف يانسكي مصدراً راديوياً في كوكبة الرامي Sagittarius الصفحةَ الأولى من صحيفة نيويورك تايمز. لكن علماء الفلك لم يعجبهم الخبر، وتجاهلوا الاكتشاف المذهل. وبعد ذلك كُلِّف يانسكي بأعمال أخرى في مختبرات شركة بل، وتُركت نتائجه ليتراكم عليها الغبار. وفي العام 1950، توفي بسبب سكتة دماغية عن عمر يناهز 44 عاماً فقط.

ولحسن حظ العلم، أن المهندس الإلكتروني غروت ريبر Grote Reber (1911-2002) تبنى وجهة نظر مختلفة. فبإلهام من عمل يانسكي، بنى ريبر هوائياً وجهاز استقبال خاصين به، أكثر تطوراً بقطر 9 أمتار في حديقته الخلفية، وأثبت نقطة إرسال الإشارة. كان جزء منها من بقايا سوبرنوفا يُعرف حالياً باسم Sagittarius A، والذي اكتُشِف لاحقاً في العام 1974 أنه موطن الثقب الأسود الهائل في مركز مجرّة درب التبانة.

في منتصف ثلاثينات القرن العشرين، كان ريبر عالم الفلك الراديوي الوحيد في العالم، وكان يملك أول تلسكوب راديوي عاكس مكافئ. وفي السنوات التالية نشر خرائط كونتورية Contour maps للسماء تُظهر سطوعها بموجات راديوية، وتثبت وجود مصادر راديوية أخرى في مجرّة الدجاجة أ Cygnus A وبقايا السوبرنوفا ذات الكرسي أ Cassiopeia A.

لقد شهدت حياة يانسكي ولادةَ علم الفلك الراديوي؛ أما ريبر، فقد عمل على ضمان أن يكون لهذا التخصص العلمي المولود حديثاً مستقبل كبير، مثل علم البصريات، الذي كان حتى تلك اللحظة هو سيد الساحة. 

جوناثان باول Jonathan Powell: كاتب مستقل، ومذيع، وكاتب عمود في علوم الفلك في صحيفة ساوث ويلز آرغوس South Wales Argus.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى