كيف تُولَد الثقوبُ السوداء؟
نحن على وشك أن نكتشف مصدر فجوات الجاذبية الهائلة هذه، كما يُبيِّن هنا
كولين ستيوارت
في غضون سنوات قليلة فقط، سيخترق صاروخ فضائي سماءَ الليل، ويضيئُها بظلال داكنة من لون قرمزي، حاملاً على متنه شحنة علمية فلكية ثمينة جداً هوائي مقياس التداخل الليزري الفضائي Laser Interferometer Space Antenna (اختصاراً: المقياس LISA)، وهو إنجازٌ هندسي جريء استغرق عقوداً من التصميم والبناء. وبعد وصوله إلى الفضاء، ستنطلق منه ثلاث مركبات فضائية متماثلة لتحلق في تشكيل هندسي مثلث الشكل، وتفصل مسافة مليون ميل بين كل اثنتين منها، لتبحث كلها عن إجابات لواحد من أعمق الألغاز المتعلقة بكوننا: من أين جاءت الثقوب السوداء؟
يقول د. شون ماكغي Dr. Sean McGee، من جامعة برمنغهام: “الثقب الأسود هو جزء كثيف من الفضاء لا يمكن لشيء أن يهرب منه”. الثقب الأسود هو ذلك الولد الجامح في الكون، والذي يمثل أشد عناصره تطرفاً وغرابة. يقول ماكغي: ”إنه جزء نادر في علوم الفيزياء. وقد ينهار فهمنا للكون في بيئته العنيفة“.
ولعل ما هو أهم، هو أن الثقوب السوداء تشكل كثيراً مما يتطلبه نشوء المجرات وبَدء عملية بناء النجوم. وما كنا لنكون هنا من دونها. إن فهم تاريخ الثقوب السوداء هو فهم لتاريخنا نحن.
يعتقد العلماء أن كل مجرة تحتوي في مركزها على ثقب أسود فائق الكتلة Supermassive black hole (اختصاراً: الثقب SMBH). هذه الأجرام الخارقة تقلب الموازين بكتلتها التي تفوق بملايين بل حتى ببلايين أضعاف كتلة الشمس. وفضلاً عن ذلك، يبدو أن هذه العمالقة قد ظهرت بعد 300,000 سنة فقط من الانفجار الكبير (العظيم) Big Bang.
يعني مثلُ هذا الظهور المبكر أن الثقوب السوداء والنجوم وضعت علماء الفلك في حالة جدل كوني مشابه لمثال الدجاجة والبيضة. فأيهما ظهر أولاً؟ تقول الدكتورة ساندرا دي جيسوس رايموندو Dr. Sandra De Jesus Raimundo، من جامعة ساوثامبتون: ”ليست لدينا إجابة محددة. ويبدو أن الثقوب السوداء تبدأ من نوع ما من البذور“.
نظرية الشتلات الصغيرة
المرشح الأول هو ما يسمى بالبذور “الخفيفة”. في كوننا الحديث تتشكل الثقوب السوداء في عملية موت النجوم الضخمة. تنفجر النجوم بصورة سوبرنوفا في نهاية حياتها، ثم تنهار نواها إلى أبواب الجاذبية السحرية التي نسميها الثقوب السوداء. تنطلق المادة من السوبرنوفا (مستعر أعظم) Supernova بسرعة صاروخية تبلغ نسبة 10% من سرعة الضوء قبل اكتمال تشكُّل الثقب الأسود، ولهذا السبب يمكن لهذه المادة أن تتفوق على قوته الجاذبة.
ومع ذلك فمن أجل تهيئة ظروف الحجم العملاق للثقوب السوداء التي شاهدها علماء الفلك في فترات بَدء الكون، تشير رايموندو إلى أن النجوم المسؤولة عن ذلك لا بد أن تعادل ما بين 1,000 و10,000 ضعف كتلة الشمس. وتقول: ”هذا أكبر من النجوم التي نراها حالياً“. وللمقارنة نرى أن كتلة النجم حامل الرقم القياسي الحالي لا تزيد على 300 مرة من ضعف كتلة الشمس؛ وهذا فارق كبير.
وهناك افتراض بديل، وهو أن تكون الأجيال الأولى من النجوم قد تحولت إلى سوبرنوفا بسرعة لا تُصدَّق، واندمج كثير من الثقوب السوداء الصغيرة بعد ذلك. يقول ماكغي: ”ستكون هناك حاجة إلى كثير من عمليات الاندماج“. ولن يكون هذا ممكناً إلا في المناطق شديدة الكثافة من الكون الوليد، حيث احتشدت بكثافة كبيرة بعضُها قُربَ بعض إلى درجة أن عمليات الاندماج أدت إلى مزيد من الاندماجات في عملية متسلسلة جامحة. هذا ممكن، ولكن ليس من الضروري أن يكون شائعاً.
وهناك أيضاً احتمال أن تكون الثقوب السوداء الأولى قد نشأت في وقت مبكر جداً، في الثواني الأولى من تاريخ الكون. هذه الثقوب السوداء البدائية Primordial black holes (اختصاراً: الثقوب PBHs) ستكون صغيرة الحجم، ولكنها كبيرة التأثير. إن ثقباً أسودَ بدائياً PBH بحجم ذرة سيكون بوزن جبل إفرست. وهذا أحد الخيارات التي يُنظر فيها فيما يتعلق بالطبيعة الحقيقية للمادة المعتمة Dark matter قوة الجذب الغامضة التي يبدو أنها تربط المجرات وعناقيد المجرات معاً. وإذا كانت الثقوب السوداء البدائية قد تشكلت فعلاً بعد وقت قصير من الانفجار الكبير، فمن الممكن أنها تضخمت جداً بفعل عمليات الاندماج على مدار مئات آلاف السنين الأولى من عمر الكون.
سحب منهارة ثقيلة
هذه كلها سيناريوهات لطريقة ”من القاعدة إلى القمة“، أي إن الثقوب السوداء الصغيرة تنمو تدريجياً إلى ثقوب أكبر. تعتمد أسرة النظريات الأخرى على فكرة بذرة ”ثقيلة“، أو ما يسمى بسيناريو الانهيار المباشر، أو ”من القمة إلى القاعدة“ Bottom-up. هذا السيناريو يقول بانهيار سحابة هائلة من الهيدروجين البدائي تحت تأثير وزنها، وتتكثف قوة جذبها وتتضخم إلى حد لا يسمح لشيء بأن يُفلت من قبضتها. ومع ذلك، ليس لدينا أي دليل على أن هذه العملية قد حدثت فعلاً، لأننا نتحدث عن أحداث وقعت منذ زمن بعيد جداً وعلى مسافة بعيدة جداً. تقول رايموندو: ”لدراستها سنحتاج إلى معدات رصد خارقة“.
”نحن أمام فجر عصر جديد، يُشبه إلى حد كبير طوفانَ الاكتشافات الذي تلا اختراع التلسكوب“
وهنا يأتي دور مرصد ليسا LISA، الذي سيمثل خطوة تغيير في قدرتنا على معالجة هذه الأسئلة، مع أن موعد إطلاقه لن يكون قبل عقد الثلاثينات من القرن الحادي والعشرين. ليسا LISA هو مرصد لموجات الجاذبية، أي إنه سيبحث عن تموجات في نسيج الكون ذاته الذي تحركه أحداث كارثية هائلة، مثل اندماج الثقوب السوداء. ما زال علم فلك موجات الجاذبية في مراحله الأولى، ولم يكشف عن مشاهدته الأولى إلّا في العام 2015. إننا الآن على عتبة فجر عصر جديد، يشبه إلى حد كبير طوفان الاكتشافات الذي تلا اختراع التلسكوب قبل 400 سنة.
ومع اعتبار عدد عمليات الاندماج السريعة المطلوبة لبناء الثقوب السوداء فائقة الكتلة التي نراها، يجب أن يعزف الكون لنا سيمفونية صامتة من موجات الجاذبية المهتزة خلفية من موجات الجاذبية تنافس الخلفية الكونية الميكروية CMB الأكثر شهرة، والتي تمثل صدى الانفجار الكبير. ومع ذلك نحن لا نملك الآن الأدوات اللازمة للاستماع إلى كل عضو في أوركسترا الكون.
تحظى مراصد موجات الجاذبية الأرضية التي لدينا مثل لايغو LIGO وفيرغو VIRGO بدرجة حساسية تمكنها من التقاط أصغر عمليات اندماج الثقوب السوداء؛ وفي العام 2023، لجأت مجموعة تعاون دولي من علماء الفلك، إلى استخدام بيانات 15 عاماً من عمليات توقيت دقيق لـ”نبضات“ عشرات البُلسارات (النجوم النبّاضة) Pulsars، لتستمع إلى الموجات الناتجة عن اصطدام الثقوب السوداء هائلة الكتلة. لكن هذا يترك فجوة كبيرة بين نقيضي الحجم هذين. فإذا أردنا تقدير ”الكونشيرتو“ الكامل، فسنكون في حاجة إلى مرصد ليسا LISA.
يمكن لأصغر الجسيمات أن تبتعد ببطء لتدمر وتُفني حتى أكبر الثقوب السوداء
وفقاً لنظريات ستيفن هوكينغ، فإن الثقوب السوداء لن تدوم إلى الأبد. بدلاً من ذلك، ستتبخر ببطء، وذلك لأنها تطلق ما يعرف باسم إشعاع هوكينغ Hawking radiation.
إليك ما يعتقد علماء الفلك أنه قد يحدث حول أفق الحدث، وهو الحيز الفاصل بين المكان الذي يمكنك فيه الهروب من جاذبية الثقب الأسود والمكان الذي لا يمكنك فيه ذلك.
تقول فيزياء الكم Quantum physics إن أزواجاً من الجسيمات تظهر باستمرار: إلى داخل الوجود وخارجه. تمثلت عبقرية هوكينغ في تصوُّر هذه العملية وهي تحدث عند أفق الحدث، بحيث يظهر زوج جسيمات على طرفيه المتعاكسين. سيكون أحدهما حراً في الهروب والإفلات من الثقب، لكن الآخر سيُحتجز فيه إلى الأبد. يمكن للجسيمات الهاربة أن تتحد لتشكل جسيمات ضوء تتدفق من المنطقة الواقعة خارج أفق الحدث مباشرة. وبمرور الوقت سيفقد الثقب الأسود هذه الطاقة ببطء ويتلاشى.
لكن كلمة ”ببطء“ هي تبسيط للأمر إلى حد ما. إذ إن ثقباً أسود بكتلة الشمس سيحتاج إلى مدة 1067 عام لكي يتبخر تماماً. هذا الرقم هو 1 متبوعاً بـ 67 صفراً. أما في مثال الثقوب السوداء فائقة الكتلة SMBHs، فيمكن أن يصل عمرها إلى 10,100 عام. غير أن إشعاع هوكينغ ما زال ينتظر اكتشافه بنحو قاطع، ولذا فإن تبخر الثقب الأسود هو عملية نظرية حالياً.
إذا كانت الثقوب السوداء فائقة الكتلة قد نشأت فعلاً على مراحل وفق سيناريو ”من القاعدة إلى القمة“، فمن المفترض أن تكون هناك بعض الثقوب السوداء المتوسطة المتبقية والتي لم ينتهِ بها الأمر إلى الاندماج في ثقوب سوداء فائقة الكتلة. يطلق علماء الفلك على هذه اسم الثقوب السوداء متوسطة الكتلة E، ولها كتلة تتراوح بين 100 و10,000 كتلة شمسية. ومع ذلك، لم يجد علماء الفلك لدهشتهم سوى حفنة فقط منها إلى الآن. فهل هي موجودة أصلاً؟
ربما نوشك أن نعرف هذا. يقول ماكغي: ”سيجد مرصد روبن كثيراً منها“. فمرصد فيرا روبن Vera C Rubin Observatory مركزٌ لأكبر كاميرا رقمية بُنيت على الإطلاق؛ ومن المقرر له أن يبدأ عمليات المسح الشامل في صيف العام 2025. يوجد المرصد في صحراء آتاكاما، في تشيلي، وسينفذ عمليات مسح لسماء نصف الكرة الجنوبي بالكامل كل ثلاث ليالٍ. أحد الأشياء التي سيبحث عنها روبن هو دليل وقوع أحداث اضطرابات مدية Tidal disruption events (اختصاراً: الأحداث TDEs).
تتضمن حوادث الاضطرابات المدية تأثيرَ قوة الجذب الهائلة لثقب أسود يُمزق نجماً ما. يقول ماكغي: ”تُطلق هذه الحادثة توهجاً يُمكن رؤيته، ويمكن من خلاله قياس كتلة الثقب الأسود“. ستكون هذه طريقة لاكتشاف الثقوب السوداء متوسطة الكتلة، التي ستكون، بخلاف ذلك، هادئة جداً بحيث لا يمكن رصدُها. يمكن لروبن أن يساعدنا في العثور على مزيد من الثقوب السوداء التي تتوارى في ظلال الكون، ويقدر عددها بـ 40 كوينتيليوناً (40 بليون بليون).
جنون الافتراس
يُعَد التفاعل بين الثقب الأسود والنجوم والغازات المحيطة به جزءاً مهماً من قصة استمرار عملية نموها. بعض الثقوب السوداء فائقة الكتلة هو شديد الفاعلية، إلى درجة أن علماء الفلك يطلقون عليها صفة ”النشطة“ Active. إنها تلتهم المادة النجمية، وتحول الحطام إلى أقراص حولها، ثم تسخن بشدة وتصير مصدراً لإشعاع شديد عبر الطيف الكهرومغناطيسي. تُعرف هذه العملية باسم التنامي Accretion.
وتبحث رايموندو في ذلك الأمر الذي يجعل بعض الثقوب السوداء فائقة الكتلة نشطة، في حين يبدو بعضٌ آخر مثل الثقب الموجود في مجرتنا درب التبانة هادئاً. وتقول: ”لقد نظرنا إلى المجرات التي تُظهر حركة للغاز مغايرة فيها“.
في مجرة عادية تدور النجوم حول الثقوب السوداء فائقة الكتلة مثلما تدور الكواكب حول الشمس. الغاز الذي يتحرك بصورة مغايرة هو مادة موجودة داخل المجرة، وتدور في الاتجاه المعاكس لحركة النجوم. توضح رايموندو: ”ينتُج هذا الغاز بهذه الحركة عندما يكون هناك نوع من التفاعل بين المجرة وبيئتها الخارجية“. يمكن للمجرة أن تسحب الغاز من مجرة مجاورة لها، أو من الفضاء بين المجرات.
يؤدي عدم التطابق بين دوران الغاز ودوران النجوم إلى فقدان الغاز للطاقة، ويتجه نحو مركز المجرة ليغذي الثقب الأسود هناك. تقول رايموندو: ”المرحلة التالية هي معرفة مقدار نمو الثقب الأسود الناتج عن هذا الغاز المنحرف“.
وهناك طريقة أخرى لمعرفة ذلك: التلسكوب المتقدم لمرصد الفيزياء الفلكية عالية الطاقة، والمسمى نيوأثينا NewAthena، وهو مهمة تابعة لوكالة الفضاء الأوروبية من المقرر إطلاقه في العام 2035 للبحث عن الأشعة السينية الناتجة عن تنامي الثقب الأسود.
هكذا ستكون لدينا حينها الأدوات اللازمة لمعرفة ما إذا كانت الثقوب السوداء فائقة الكتلة تنمو أساساً بفعل عمليات الاندماج، أو بفعل عملية التنامي.
يقول ماكغي: ”سيساعدنا وجود هذين المرصدين الرائعين على تجميع عناصر القصة كلها معاً. وفي الواقع أنا متفائل جداً بقدرتنا على اكتشاف ذلك، ولن يقتصر الأمر على هذا اللغز الذي طال أمده“. وربما سندرك أخيراً حقيقة من أين أتينا بفهمٍ أفضل قليلاً.
مؤلف ومحاضر في علوم الفلك – احصل على كتاب إلكتروني مجاني من موقعه الإلكتروني، على الرابط: colinstuart.net/ebook.