تشيليابينسك بعد 10 سنوات
في العام 2013، زارت إيزي بارسن Ezzy Pearson موقع انفجار نيزك هائل. وبعد مرور عَقد على الحادثة، ها هي تنظر إلى ما تعلمناه منها
عند الساعة 9:20 من صباح يوم 15 فبراير 2013، كان سكان المدينة الصناعية تشيليابينسك Chelyabinsk في روسيا يبدؤون صباحهم عندما ومض شعاع ضوء ساطع في السماء. لقد كان ساطعاً بما يكفي ليتفوق على ضوء الشمس، وركض الناس إلى النوافذ ليروا الأثر الذي تركه في السماء. وبعد عدة دقائق، اجتاح المدينة دوي انفجار حطم النوافذ وهدم الجدران وطرح الناس أرضاً.
كان صوت الاصطدام هذا هو صوت نيزك ينفجر في السماء، ولكنه لم يكن مجرد ضجيج. فقد تطايرت شظايا من الصخور عبر المساحات بسبب قوة الانفجار، وسقطت على الثلج مثل المطر.
وسرعان ما ظهرت مقاطع فيديو من كاميرات السيارات وكاميرات المراقبة على القنوات الإخبارية في معظم أنحاء العالم، مما أدى إلى تدفق صيادي النيازك والباحثين إلى المدينة. ومن بين أولئك الذين وصلوا بعد الانفجار الجوي كانت هناك طالبة دكتوراه شابة بدأت من فورها مسيرتها الصحافية آنا.
لقد طُلب إليّ إعدادُ فيلم وثائقي عن الحدث بعنوان درامي إلى حد ما، هو: ضربة نيزك! كرة نارية من الفضاء، Meteor Strike! Fireball from Space، لأجد نفسي مع طاقم التصوير غارقين إلى ركبنا في ثلوج الشتاء الروسي، بعد ثلاثة أسابيع من الانفجار. ومع ذلك، فقد كان الثلج الذي جمد أصابع قدميَّ هو نفسه الذي جعل تشيليابينسك المكان المثالي للبحث عن الحجارة النيزكية. عندما سقطت الصخور على ثلج لم يُمس، أذابت حرارة الرحلة عبر الغلاف الجوي حفرة واضحة ومرئية. ابحث عن حفرة، واحفر أسفل، وستكون لديك فرصة جيدة لأن تجد نيزكاً.
عند وصولنا اخترنا إحدى المناطق، لكن مديرنا تمكن من العثور على حصاة بقطر 1 سم. كانت بلون أسود نقي غطتها قشرة انصهار نتجت عن حرارة الاقتحام التي تذيب السطح. وهناك شعور سحري عندما تمسك بيدك حجراً نيزكياً عثر عليه حديثاً. فقد كانت هذه شظية متبقية من زمن ولادة المجموعة الشمسية. وقد ظلت في الفضاء طوال بلايين السنين إلى ما قبل أسابيع قليلة فقط. وقد حصلنا الآن على فكرة جيدة أيضاً عن مكانها.
تقول ناتالي ستاركي Natalie Starkey، وهي عالمة جيولوجيا ومؤلفة كتاب التقاط الغبار النجمي: المذنّبات، والكويكبات، وولادة المجموعة الشمسية Catching Stardust: Comets, Asteroids and the Birth of the Solar System: ”عندما تُشاهد كرة نارية في السماء، كما كان الأمر في تشيليابينسك، تساعد لقطات الكاميرا العلماء على حساب المكان المحتمل الذي جاءت الصخرة منه في الفضاء وذلك على الرغم من أن هذا الدليل لا يكفي وحده عادةً لمعرفة ذلك تماماً“.
قدمت وسائل التواصل الاجتماعي ثروة من المشاهد التي التقطتها الكاميرات، والتي بدأ باحثو الكواكب المحترفون والهواة بالفعل في تحليلها، وقياس حركة النيزك والظلال التي صنعها، ثم مقارنتها بخرائط غوغل. ويبدو أن النيزك قد ضرب الغلاف الجوي بزاوية منخفضة، وتحرك بسرعة 65,000 كم/سا. وأي قطعة كبيرة بقيت منه كانت ستسقط حول بحيرة تشيباركول Chebarkul القريبة حيث عثر بالفعل على حفرة بقطر 6 أمتار في الجليد. يشير تتبع الخط الخلفي Path back لحركة سير المذنب إلى أنه كان في مدار بيضاوي على الأرجح، نقله من وراء كوكب المريخ إلى مدار كوكب الزهرة تقريباً، قبل أن يضرب كوكبنا.
جمع البيانات
سجَّل مصدر آخر غير عادي مزيداً من البيانات: فقد رصدت المحطات تحت الصوتية، التي عادة ما تستمع إلى اختبارات الأسلحة النووية غير المشروعة، الانفجار في أماكن بعيدة مثل القارة القطبية الجنوبية. أشارت هذه القياسات إلى أن الانفجار، الذي بلغت قوته 500 كيلوطن، كان أقوى بـ 30 مرة من القنبلة التي فجّرت في هيروشيما، مما سمح لهم بتقدير أن كتلة الكويكب الذي ضرب الغلاف الجوي بلغت 130 ألف طن تقريباً.
تقول ستاركي: ”يشير هذا إلى أن قطر النيزك بلغ 20 متراً تقريباً، أي تقريباً طول حافلتين من طابقين، من أقصاه إلى أقصاه. وهذا في الواقع جزء صغير جداً من الصخرة الفضائية، ولكن من حسن الحظ أنه تشظى إلى قطع أصغر“.
كشفت التسجيلات تحت الصوتية Infrasound في الواقع عن سبعة انفجارات منفصلة، حدثت على ارتفاعات تراوحت بين 83 كم و30 كم. وأثناء إنتاج فيلمنا الوثائقي، اكتشفت سبب تشظيه المتكرر مباشرة عندما وصلنا إلى جامعة الأورال الفدرالية في مدينة يكاترينبرغ Yekaterinburg، على مسافة عدة ساعات بالسيارة من تشيليابينسك. أرسل علماؤهم الجيولوجيون متصيدي النيازك لديهم لجمع مجموعة كبيرة من الحجارة النيزكية، وقد جرى بالفعل تقطيع عديد منها لفحصها من كثب. لم أحسدهم على هذه المهمة، لأن الصخور كانت هشة بنحو ملحوظ. وكانت القطع بمجرد أن نمسك بها، لذا فليس من المستغرب أن الصخرة الأكبر لم تصل إلى الأرض قطعة واحدة.
تقول ستاركي: ”يؤدي غلافنا الجوي عملاً جيداً بإبطاء الأجسام الفضائية قبل أن تصل إلى سطح كوكبنا. الأمر لا يشبه تماماً الاصطدام بجدار، ولكن هذا التباطؤ يؤدي إلى تعرُّض الصخور لدرجات حرارة وضغط عالية، يمكن لها أن تفجر النيزك إلى قطع فيتحرر في لحظة واحدة كامل حرارته وطاقته الحركية“.
عند النظر إلى العينات النيزكية تحت المجهر الإلكتروني، تبين أن نيزك تشيليابينسك هو كوندريت Chondrite عادي، وهو النوع الأكثر شيوعاً من صخور الفضاء المكتشفة على الأرض. هذه نيازك حجرية مكونة من غبار وحبيبات تسمى كوندرولات Chondrules، والتي لم تلتحم لتشكِّل كواكب، مما يعني أنها تمثل المادة الأولية التي تشكلت منها المجموعة الشمسية.
دراسات أخرى
ومع الأسف، لم أحصل إلا على لمحة موجزة عن العمل الجاري قبل أن أضطر إلى العودة إلى الوطن، لكن الجيولوجيين في معظم أنحاء العالم تابعوا دراسة الصخور. في يوم 16 أكتوبر 2013، حصلت المجموعة على أكبر إضافة إلى مجموعتها عندما رُفعت قطعة بكتلة 540 كغم من بحيرة تشيباركول. وفي السنوات اللاحقة، اصطدتُ عشرات الأوراق البحثية عن الكرة النارية، تغطي كل شيء بدءاً من النيزك نفسه، وحتى استجابة خدمات الطوارئ. لقد صنعوا معاً صورة صخرة فضائية كانت ذات يوم جزءاً من كويكب أكبر في الحزام بين المريخ والمشتري، ولكن في لحظة ما انتزع من مكانه وتوجه في رحلته المصيرية نحو الأرض.
ومع مرور الوقت، اكتشفتُ قطع حجارة أخرى وصارت عينات نيزك تشيليابينسك واحدة من عديد من الفهارس النيزكية (مع أن نيزكي الصغير قد احتل دوماً مكان الصدارة على مكتبي). ومع ذلك، ما زال هناك سؤال واحد عالق ومزعج لم يصل الباحثون إلى إجماع مقبول بشأنه: متى حدثت الاصطدامات التي فتَّتت الكويكب؟
الدفاع عن الكوكب
تُشكل النيازك خطراً على كوكبنا، لكن البشرية مستعدة للدفاع
إضافةً إلى كونه فرصة علمية مثَّل نيزكُ تشيليابينسك دعوةً للصحوة أمام خطر ضربات النيازك. لقد أصيب 1,500 شخص في الانفجار، مع أن معظم هؤلاء أصيب بفعل الحطام والزجاج المتطاير من جراء الاصطدام، أو حروق شمسية من الضوء الساطع.
ومع ذلك، فقد كان تشيليابينسك كويكباً صغيراً فوق مدينة صغيرة. لو انفجرت كرة النار تلك فوق ناطحات السحاب في لندن أو نيويورك، لاختلفت القصة.
شهد العقد الماضي عديداً من التدابير المتخذة لمنع مثل هذه الكارثة. تقصَّت الدراسات المسحية 95% من الكويكبات التي يزيد قطرها على 1 كم، أو ما يسمى بـ”قاتلة الكواكب“ Planet killers. الكويكبات المتبقية تتوارى وراء وهج الشمس، وهو السبب نفسه لعدم رؤية نيزك تشيليابينسك في وقت أبكر. ومع ذلك، فقد أمكن تعقب أربعة من هذه الكويكبات في شهر نوفمبر 2022، وتسعى عمليات مسح أخرى للعثور على جميع الكويكبات القريبة من الأرض التي يصل قطرها إلى 140 متراً.
وفي الوقت نفسه، أثبتت مهمة DART التابعة لوكالة الفضاء ناسا أن لدينا التكنولوجيا اللازمة لحرف كويكب مقبل، مما يعني أننا أكثر استعداداً من أي وقت مضى للدفاع عن أنفسنا أمام صخور الفضاء القاتلة.
يقول كريغ والتون Craig Walton من جامعة كيمبريدج: ”كان هناك نقاش حول ما إذا كانت هناك عشرات الاصطدامات، أو اصطدام واحد فقط“. وكان نقاشاً أمضى السنواتِ الست الماضية محاولاً حله.
يقول والتون: ”وضعت يدي على النيزك أول مرة في العام 2016، عندما كنتُ أعمل على مشروع بحث صيفي في الجامعة المفتوحة. نيزك تشيليابينسك هو واحد من أقدم الأجرام الصخرية في المجموعة الشمسية. لقد شهد تاريخاً مضطرباً في الفضاء، وهو يُسجل تاريخاً معقداً من الاصطدامات، لكن العلماء لم يكشفوا التسلسل الدقيق لمجريات الأحداث عليه“.
صخرة عصور
هذا السجل التاريخي مدوَّن في العروق الداكنة التي تتخلل حجارة نيزك تشيليابينسك. إنها آثار انصهار ناتج عن حرارة الاصطدام الشديدة التي تذيب الصخور بنحو غير متساوٍ، وهذا ما يعني أن تاريخ نشأتها يظهر في وقت حدوث الاصطدام. اعتقد والتون أن المفتاح لمعرفة عمرها قد يكمن في اليورانيوم الموجود في الأجزاء المنصهرة. يتحلل هذا العنصر إشعاعياً إلى رصاص؛ وعندما تكون الصخرة باردة، يظل هذان العنصران حبيسَين ضمن تركيب بنيتها البلورية. ومع ذلك، عندما تتعرض الصخرة لتسخين شديد، يفلت الرصاص، ويبقى اليورانيوم في مكانه.
جلب صخور الفضاء إلى المنزل
إن النيازك والعينات المأخوذة مباشرة من الكويكبات هي عينات قيِّمة لعلوم الكواكب
بدلاً من انتظار وصول النيازك إلينا، ستعود المركبة الفضائية أوزايرس ركس إلى الأرض في 24 سبتمبر 2023، وهي تحمل عينة نقية من الصخور الفضائية التُقطت مباشرة من كويكب.
يقول كريغ والتون من جامعة كيمبريدج: ”الشيء الرائع في المادة الأصلية هو أنها لم يكن عليها أن تمر عبر الغلاف الجوي بطريقة عنيفة فكل شيء حفظته العينة فيها إنما يخص ما حدث للكويكب“.
تؤدي عملية اقتحام الغلاف الجوي القاسية إلى إحداث تغييراتها الخاصة، مما يضيف طبقة من الغموض يتعين على علماء الكواكب تخطيها. كما أنها تتلوث في اللحظة التي تصطدم فيها بالغلاف الجوي، مما يعني أنه من المستحيل معرفة ما إذا كانت آثار المركبات العضوية في العينة هي في الأصل جزءاً من الكويكب أو التُقطت في أثناء وجودها على الأرض.
يقول والتون: ”إذا كنتَ مهتماً باكتشاف الشيء المناسب للحياة وجلبته الكويكبات إلى الأرض، فأنت في حاجة إلى عينة أصلية“.
ومع ذلك فهذه عملية باهظة، وتستغرق وقتاً طويلاً، وتعود ببضعة غرامات فقط من المادة. استغرقت المهمة الوحيدة التي نجحت في إعادة مادة إلى الأرض، وهي مهمة هيايابوسا 2 Hayabusa2 في العام 2020، ست سنوات لإعادة 5 غم فقط من المواد. وفي الوقت نفسه، تحتوي مرافق مثل الجامعة المفتوحة Open University ومتحف التاريخ الطبيعي Natural History Museum على فهارس ضخمة من النيازك.
يقول والتون: ”ستظل هذه إلى الأبد أرشيفاً لا يُقدر بثمن، على الرغم من كونها معقدة وصعبة الفهم. لن نكون قادرين على الذهاب إلى كل كويكب في المجموعة الشمسية وجلب قطع من كل منها. لكن سقوط الحجارة النيزكية سيؤدي المهمة“.
يقول والتون: ”استناداً إلى حقيقة أننا نعرف نصف عمر Half-life تحوُّل اليورانيوم إلى رصاص، يمكننا معرفة المدة التي ظلت فيها البلورات باردة بقياس نسبة هذين العنصرين إكلٍّ منهما إلى الآخر، وخاصةً قياس الوقت منذ آخر مرة تعرض فيها لاصطدام“.
ومع ذلك، فقد تطلب الحصول على البيانات 6 سنوات، ويرجع ذلك جزئياً إلى قيود الإغلاق التي فرضها وباء COVID-19 على المختبرات في المملكة المتحدة.
يقول والتون: ”انتهى بي الأمر بإرسال العينات الثمينة التي قضيتُ سنوات في البحث فيها إلى بكين. وقد حُجزت في الجمارك هناك مدة شهر“.
وفي النهاية، وصلت العينات وأظهرت نتائج الاختبار عمرين أو حدثين مميزين. يبدو أن الاصطدام الأحدث -الذي سبب شَطرَ الكويكب من صخرته الأم وإرسالَه نحو الأرض- وقع في ملايين السنين القليلة الماضية. ولكن كان هناك حدث آخر وقع قبل 4.45 بليون سنة في وقت قريب من زمن نشوء قمرنا.
يقول والتون: ”تشيليابينسك ليس النيزك الوحيد الذي أشار إلى تصادم كبير في هذا الزمن. أحد التفسيرات هو أن الاصطدام الهائل الذي صنع القمر سبب نشوء حطام، تطاير بعضه عبر أنحاء المجموعة الشمسية واصطدم بالكويكبات. الاحتمال الآخر هو أن الكواكب كانت تمر بموجة أخيرة من إعادة الانتظام، وسبب تأثير الجاذبية اصطدام الكويكبات بعضها ببعض“.
في السنوات المقبلة، سيعود باحثون آخرون بلا شك إلى القطع النيزكية لتأكيد أو نفي نتائج والتون، أو للبحث عن قطع أخرى في أحجية نشوء المجموعة الشمسية. ومع أن هذه الحجارة النيزكية قد تكون من أحد أكثر الأنواع شيوعاً، إلا أنها فريدة من دون شك. ويعني عمرها أنه قد سجل جزءاً طويلاً من تاريخ الكواكب، ويعرف عن رحلتها عبر الغلاف الجوي أكثر من أي صخرة فضائية أخرى. أضف إلى ذلك تلك الكمية الهائلة من مادة النيزك التي حصلنا عليها، وليس هناك من شك في أن نيزك تشيليابينسك سيثير فضول علماء جيولوجيا الكواكب على مدى سنوات مقبلة.
يقول والتون: ”نحن تماماً في بداية جمع أجزاء صورة تاريخ مجموعتنا الشمسية باستخدامنا الحجارة النيزكية. وإذا كان في إمكانك شرح نيزك تشيليابينسك، فربما يمكنك شرح كل شيء آخر“.