القلب المظلم لمجرتنا
تبحث جين غرين في كيفية تكامل عمل ثمانية تلسكوبات لالتقاط صورة ظِل ذلك الثقب الأسود الهائل في مركز مجرّة درب التبانة Sagittarius A*.
وأخيراً كُشف النقاب عن اللغز الكامن في قلب مجرتنا درب التبانة. فعند الساعة 13:07 بالتوقيت العالمي UT من يوم 12 مايو 2022، كشف فريق علماء تلسكوب أفق الحدث Event Horizon Telescope (اختصاراً: التلسكوب EHT) عن أول صورة مرئية مباشرة على الإطلاق لأقرب ثقب أسود فائق الكتلة. لقد كانت تلك لحظة مثيرة وعميقة.
وعلى الرغم من أنها ليست أول صورة لثقب أسود يقدمها تعاون التلسكوب EHT- بل حظيت صورة الثقب الأسود M87* التي قدمت أول مرة في شهر إبريل من العام 2019 بذلك السبق- غيرَ أن هذه الصورة كانت مطمحاً للعلماء منذ فترة طويلة. ونظراً إلى عدم قدرة أي شيء، ولا حتى أشعة الضوء، على الإفلات خارج حدود أفق حدث الثقب الأسود، فمن المستحيل رؤيته مباشرة. بدلاً من ذلك، حاول علماء الفلك، على مدى عقود، تعقبه من خلال البحث عن النجوم العملاقة التي تدور حول نقطة غير مرئية في الفضاء. والآن لدينا صورته أو، بنحو أدق، صورته الظلية Silhouette. فهو دليل على وجود ”المحرك المركزي“ لمجرَّتنا.
على مدار خمس ليالٍ في شهر إبريل من العام 2017، رصد علماء الفلك الثقب Sgr A* (يُلفظ ”ساجي-إيه ستار“ sadge-ay-star) في كوكبة الرامي Sagittarius باستخدام ثمانية تلسكوبات راديوية، منتشرة في ستة مواقع تمتد من ولاية أريزونا إلى القطب الجنوبي، ومن إسبانيا إلى هاواي. كان هذا جزءاً من تعاون مشروع التلسكوب EHT وهو شبكة عالمية من أطباق راديوية متزامنة تنتج تلسكوباً افتراضياً بحجم كوكب الأرض، وفتحته باتساع الكوكب- وكان نتيجة عقود من العمل شارك فيه أكثر من 300 شخص و80 مؤسسة. وباستخدام تقنية قياس التداخل الأساسي الطويل جداً Very long baseline interferometry، قدّم التلسكوب EHT أعلى دقة Resolving power ممكنة من فوق سطح الأرض، تمكّنه من التقاط أجرام صغيرة بحجم 20 ميكروثانية قوسية في السماء وهذا يعادل رصد كعكة دونَت Doughnut على سطح القمر.
والدكتور زيري يونسي Ziri Younsi، من كلية لندن الجامعية University college london، هو الرئيس المشارك لمجموعة عمل الفيزياء الأساسية للجيل التالي من تلسكوبات أفق الحدث Next generation EHT (اختصاراً: التلسكوبات ngEHT). لقد أكد أن العملية كانت ”مهمة صعبة جداً مقارنة بتصوير الثقب M87* الذي يبعد عنا مسافة 53 مليون سنة ضوئية“. وعلى الرغم من أن الثقب Sgr A* أقرب بكثير من ذلك، فإنه صغير نسبياً، بكتلة 4 ملايين شمس محصورة ضمن منطقة أصغر من مدار كوكب عطارد أي إنه أصغر بنحو 1,500 مرة من الثقب M87*، ذلك الثقب العملاق الذي يزن نحو 6.5 بليون كتلة شمسية. ولمقارنة الحجم، فإذا تخيلنا أن الثقب M87* هو بحجم ملعب ويمبلي، فإن الثقب Sgr A* سيكون كقطعة لحم برغر في كشك وجبات خفيفة.
أذيال جِراء الكلاب
يقول يونسي: ”يتحرك الغاز الذي يدور حول الثقبين Sgr A* وM87* بالسرعة نفسها- سرعة الضوء تقريباً- لكن حول الثقب Sgr A* فإن يستكمل الدورة الواحدة في غضون دقائق مقارنة بأيام حول الثقب M87*. ونظراً إلى رصد تدفق الغاز المضطرب في مثال الثقب Sgr A*، دقيقة بدقيقة، فإن الصورة مشوشة بسبب تأثير ”ضبابية الحركة“ Motion blur. وعدا ذلك، إضافة إلى ذلك، كنا ننظر إليه عبر كامل مستوى المجرة الزاخرة بالنجوم والغاز والغبار، وهذه كلها تتغير بسرعة وفق مقاييس زمنية مختلفة. أدى هذا إلى نشوء غلالات من الموجات الراديوية المتناثرة. كانت محاولة رؤية الثقب Sgr A* عبرها مثل مشهد الوقوف في حديقتك في أثناء عاصفة ممطرة وأنت تطل من نافذة مطبخ مغبشة بالبخار لتشاهد جروك المحموم- ثقبنا الأسود الهائل- يدور حول نفسه مطارداً ذيله! بالمقارنة، الثقب M87* هو جرو يأخذ قيلولة في فناء مضاء بنور الشمس!“.
لقد استغرق الأمر من فريق تلسكوب أفق الحدث خمس سنوات لمعرفة كل شيء. وقد كانت مهمتهم شاقة: انقسم أعضاء التعاون إلى فرق متعددة، كل منها يستخدم طرقاً مستقلة لإعادة بناء صورة من البيانات. وكانت النتيجة غير مؤكدة. فقد كشف كثير من الصور عن حلقة، ولكن ليس جميعها. ولحل هذه المعضلة، استخدم العلماء بعضاً من أعقد الخوارزميات الحاسوبية التي وضعت على الإطلاق من أجل محاكاة الصور المختلفة، ثم استخدموا هذه الخوارزميات لاختبار النتائج المتولدة من طرقهم المختلفة لإعادة بناء الصور. في النهاية كانوا متأكدين من اكتشافهم حلقة، ويا لها من نتيجة مذهلة ورائعة!
كشفت رؤية التلسكوب EHT- التي تفوق حدة رؤيته قدرة العين البشرية بنحو ثلاثة ملايين ضعف- أن الثقب Sgr A* هو مشابه بنحو مذهل في شكله العام للثقب M87*. فهناك حلقة ضوء ساطع ضبابية- انبعاث راديوي من إلكترونات الغاز الذي يتحرك حول الثقب الأسود- تحيط بمركز معتم. هذه النواة المعتمة هي المكان الذي يغوص فيه الضوء- الذي أطبقت عليه قوة الجاذبية الهائلة- إلى ما وراء أفق الحدث Event horizon ولن يُرى بعدها أبدا، ولكنه يترك ”ظلاً“ يشير إلي وجود الثقب الأسود. إن شهية الثقب Sgr A* منخفضة وبطيئة بنحو مدهش عند مقارنتها بالثقب M87*؛ إنه يتضوَّر جوعاً فعلاً، ويعيش على نفحات صغيرة من غاز رياح النجوم القريبة Winds of nearby stars منه- يمكن مقارنته بإنسان يبتلع حبة أرز كل مليون سنة. يُصدر الغاز المتساقط نحو الثقب طاقة تعادل عدة مئات من المرات فقط مما تطلقه شمسنا، ولذلك، فعلى مسافة كونية ”قريبة“ بقدر 27,000 سنة ضوئية، لا يمكن اعتبار Sgr A* ثقباً ساطعاً.
بعملها معاً، يمكن لمجموعة تلسكوبات أفق الحدث رؤية تفاصيل أكثر بكثير مما يراه مجموع أجزائها
تجمع تقنية قياس التداخل الأساسي الطويل جداً Very long baseline interferometry البيانات من أزواج من تلسكوبات أفق الحدث لتكشف عن كل من البنية الصغيرة والكبيرة للهدف. تعني المسافات المتغيرة بين التلسكوبات- المعروفة باسم خط الأساس Baseline- أنها تتلقى الإشارة من الثقب الأسود في أوقات مختلفة قليلاً فيما بينها، والتي يمكن قياسها باستخدام ساعات متناهية الدقة. ومع دوران الكوكب، تتغير رؤية كل تلسكوب لمركز المجرّة، كما هو الأمر مع الفواصل الظاهرية لأطباقها كما تُرى من الثقب الأسود. تساعد مثل هذه التغيرات على ”ملء“ الهوائي Antenna الافتراضي. ومن أجل تجميع الصورة هناك حاجة إلى مجموعة متنوعة من الخطوط الأساسية، وكلما كثر عددها، كان ذلك أفضل. يخزَّن الحجم الهائل من البيانات الأولية المسجلة (3.5 بيتابايت، ما يعادل 750,000 قرص DVD) من كل موقع من مواقع تلسكوب EHT على محركات أقراص صلبة عالية الأداءHard drives مملوءة بالهيليوم، لتنقل بطائرات شحن تجارية إلى أجهزة حاسوب فائقة متخصصة جداً تُعرف باسم الروابط Correlators في معهد ماكس بلانك لعلم الفلك الراديوي Max Planck Institute for Radio Astronomy (اختصاراً: المعهد MPIfRI) في بون، ألمانيا، ومرصد هايستاك Haystack التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology’s (اختصاراً: المعهد MIT) في ماساتشوستس، في الولايات المتحدة، حيث تجمع وتعاير بأجزاء من تريليون من الثانية.
آينشتاين ينتصر مجدَّداً
سمحت عمليات القياس أيضاً لعلماء الفلك بقياس حجم أفق حدث الثقب Sgr A*، والذي- وفقاً لنظرية آينشتاين في الجاذبية- يجب أن يرتبط ارتباطاً مباشراً بكتلته. قاس التلسكوب EHT أفق حدث الثقب Sgr A* الذي يمتد مسافة 51.8 مايكرو ثانية قوسية، أي تماماً كما توقعت النظرية.
غير أنه ما زال هناك عديد من الألغاز التي ربما يخفيها ثقبنا الأسود. يستلقي الثقب Sgr A* على جانبه، بحيث ننظر أسفلَ إلى رأسه، وهو يدور Spinning بعكس اتجاه حركة عقارب الساعة، بمعدَّل لم يُحدَّد بعد وفي نفس اتجاه حركة غازه المداري. قد يخفي هذا الاتجاه نفاثة نسبية Relativistic jet. وماذا عن العُقَد Bright knots الساطعة المتناثرة على الحلقة؟ ربما تكون هذه مناطق غنية بالغاز، أو آثاراً جانبية من عملية الرصد نفسها- سيحتاج الأمر إلى مزيد من العمل لتحديد ماذا تعني هذه الأشياء.
في الواقع إن إنتاج الصورة هو البداية. فقد أنتجت حملات الرصد اللاحقة بيانات تتطلب التحليل أيضاً. وسيضاف مزيد من الأطباق إلى التلسكوب من الآن وحتى العام 2030 لإنتاج الجيل التالي من تلسكوب أفق الحدث (ngEHT). سيؤدي ذلك إلى توسعة التردد اللاسلكي الحالي من 230 غيغاهرتز إلى 345 غيغاهرتز، مما يؤدي إلى تحسين دقة الصورة بنسبة 50%. وستعرض الأفلام الرصدية كيف تتغير الصور الظلية للثقب الأسود بمرور الوقت، وقد يوفر الثقب M87* ”الأبطأ“ فرصة ”العرض الأول عالمياً“. ومن يعلم؟ ففي غضون عقد من الآن ربما نستمتع بمشاهدة مقاطع فيديو للثقب Sgr A* في الوقت الفعلي.
وكما صرح الدكتور يونسي ببراعة، ”تؤدي الثقوب السوداء دوراً أساسياً في نشأة الكون ومجرَّتنا وكل مجرّة أخرى. إنها حجر الأساس ومراسي الجاذبية التي تحافظ على ترابط كل شيء معاً، لذا فمن الرائع أن نتمكن الآن من رؤيتها فعلاً“.
إنه أمر رائع حقاً، وما زال هناك كثير مما سيتاح من العلوم في المستقبل!
كاتبة في علم الفلك ومؤلفة كتاب دليل هاينز في علم الفلك Haynes Astronomy Manual.