ثقوب سوداء مجرَّدة
لطالما اعتقد الفيزيائيون أن الثقوب السوداء يجب أن تحاط بأفق حدث حولها، لكن كولين ستيوارت ينظر هنا فيما إذا كان هذا المفهوم هو محاولة لتغطية الأمر.
كولين ستيوارت Colin Stuart: (@skyponderer)،
هو مؤلف ومحاضر في علم الفلك. احصل على كتاب إلكتروني مجاني على الرابط: colinstuart.net/ebook
الثقوب السوداء Black holes هي أشياء كثيرة: بوابات مصائد كونية، عمالقة جاذبية، وقاتلات نجوم. لكن الثقوب السوداء هي أيضاً أشياء خجولةـــ فهي تكره أن تتبدى “عارية” أمام العيان. على الأقل هذا ما كنا نعتقد؛ لكن سلسلة من الأبحاث الحديثة أدت إلى وضع هذه الفكرة القديمة منذ عقود في موضع تساؤل، ومعها يمكن أن تأتي إجابات عن ألغاز أخرى كانت عنيدة ومستعصية على الحل.
الثقب الأسود هو منطقة من الكون تتعاظم فيها قوة الجاذبية إلى درجة يستحيل فيها الهروب منها: فكلما اقتربت منها، ستحتاج إلى التحرك بسرعة أكبر لكي تنجح في الهروب في الاتجاه المعاكس. غيرَ أنك لو اقتربت كثيراًــ لتتجاوز حداً يُعرف باسم “أفق الحدث” Event horizon ــ فإنك يجب أن تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء لتفر من الثقب. وبقدر ما نعلم، فهذا مستحيل، ومن ثم فإن مصيرك محتوم: فالجاذبية الخارقة للثقب الأسود سوف تمزقك أشلاء في عملية تعرف باسم “المط الجذبي” Spaghettification.
وفقاً لأفضل نظرياتنا في الجاذبية، وهي نظرية النسبية العامة لآينشتاين، سينتهي جسمك الممطوط بفعل الجاذبية في آخر الأمر إلى “نقطة منفردة” Singularity ـــ وهي نقطة كثيفة وصغيرة بشكل غير محدود في “قاع” الثقب الأسود. في الواقع، تتوقف مفاهيم الزمن والمكان عن الوجود عند النقطة المنفردة هذه، وسيُمحى أيُّ أثر لك من الكون.
معضلة كونية
إن هذا أبعد ما يكون عن أي نتيجة مرغوب فيها، سواء بالنسبة إليك أو إلى الفيزيائيين النظريين الذين يدرسون الثقوب السوداء. فإذا اختفى المكان والزمن في نفثة دخان، فستزول كذلك قدرتنا على شرح ما يحدث هناك.
تقول إيلينا جيورجي Elena Giorgi، الباحثة في دراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة برينستن: “إنه المكان الذي تنهار فيه قوانين النسبية العامة”. يمكنك أن ترى بنفسك المشكلات التي يسببها جسم كبير الكتلة ولكن حجمه صفري. فقط حاول تقسيم أي رقم تريده على صفر على الآلة الحاسبة. وكما تقول جيورجي: “إنها تخبرك أن شيئاً ما غير صحيح”.
في ستينات القرن العشرين، اقترح روجر بنروز Roger Penrose، الفيزيائي الحائز جائزةَ نوبل والمتعاون مع ستيفن هوكنغ Stephen Hawking، حلاً للالتفاف على هذا الموقف المحرج. فقال إن الحدث المنفرد Singularity يجب أن يرتدي دائماً أفق حدث حوله؛ بعبارة أخرى، لا يُسمح بأحداث منفردة “مجردة” naked. إنه يحفظ احمرار الثقب الأسود وخدودنا المحمرة حرجا، ويخفي- بنحو ملائم- مكاناً لا يمكننا شرحه وراء طبقة لا يمكننا رؤية ما وراءها أبداً، حيث لا يمكن للضوء الهروب من داخل أفق الحدث ليبين لنا ما يحدث فيه هناك. بهذه الطريقة لا يوجد جزء من الكون المرئي لا تستطيع النسبية العامة وصفه. تسمى بطاقة الخروج المجانية هذه من هذا السجن بفرضية الرقابة الكونية الضعيفة Weak Cosmic Censorship Conjecture
(اختصاراً: الفرضية WCCC).
إذا كنت تعتقد أن العامل WCCC يبدو ملائماً أكثر من اللازم لما نحتاج إليه – لأنه على الرغم من فهمنا لأفق الحدث رياضياتياً، فإننا لسنا متأكدين بنسبة %100 من كيفية تمظهره فيزيائياً – فقد تكون على صواب. ويقول توماس أندرادي Tomas Andrade، الذي يعمل على أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعة برشلونة إنه “لا برهان عليه”.
تشير حقيقة انهيار نظرية النسبية العامة في منطقة مركز الثقب الأسود إلى احتمال وجود نظرية أعمق وأشمل لقوة الجاذبية لم نكتشفها بعد، مثلما أن النسبية العامة هي صورة أكثر دقة عن العمل الأصلي لنيوتن عن قوة الجاذبية. لقد وجد علماء الفيزياء الذين يستكشفون بعض هذه النظريات البديلة أن الثقوب السوداء يمكن أن تكون في الواقع بلا أفق Horizonless.
كسر القواعد
يعتقد عديد من الفيزيائيين أننا سنصل إلى نظرية أكثر شمولية عن قوة الجاذبية إذا تمكنا من الجمع بين نظريتي النسبية العامة وفيزياء الكم Qantum physicsــ تلك القواعد الغريبة والمجنونة التي تحكم الذرات والعالم تحت (دون) الذري Subatomic. ولجعل هاتين النظريتين البارزتين تعملان جيداً معاً، غالباً ما يفترض علماء الفيزياء أن الكون يحتوي على أبعاد أكثر من الأربعة التي نعرفها في حياتنا اليومية (ثلاثة مكانية وواحد زمني). اكتشف آندرادي أخيراً أنه من الممكن تمزيق أفق الحدث مباشرة في كون له 6 أو 7 أبعاد مكانية. كل ما هو مطلوب هو اصطدام ثقبين أسودين كلٍّ منهما بالآخر.
لحسن الحظ، أننا نعلم أن تصادمات الثقوب السوداء شائعة فعلاًــ فهي التي ولّدت معظم موجات الجاذبية Gravitational wave التي اكتشفناها في السنوات الأخيرة بتجارب مثل لايغو LIGO في الولايات المتحدة. يندمج الثقبان الأسودان في ثقب واحد بعد الاصطدام، لكن أندرادي وجد أن قوة الاصطدام توسِّع أفق الحدث للثقب الأسود الجديد؛ ويقول: “إنه يضعف ويغدو غير مستقر”؛ ثم يتشظي بطريقة مماثلة لانفصال خيط ماء إلى قطرات عند خروجه متسرباً من صنبور يقطر. وقبل مضي وقت طويل، ينكشف الحدث المنفرد العاري وراءه.
غيرَ أن هناك بعض القيود الصارمة المطلوبة لاختبار ذلك: إذ يجب لسرعة اصطدام الثقوب السوداء بعضها ببعض ألّا تكون بطيئة أو سريعة جداً. وإضافة إلى ذلك يجب أن تدور الثقوب ذاتها بسرعة كبيرة نسبياً لتبدأ بذلك. وأيضاً، بالطبع، فنحن لا نعرف حتى ما إذا كانت للكون أبعاد إضافية حقاً. تقول جيورجي: “إن صلاحية هذه التعديلات غير واضحة”. وحتى لو حدث ذلك، فقد يكون من الصعب رصد مثل هذه الاصطدامات إذا كانت موجات الجاذبيةـــ التي هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها حالياً كشف مثل هذه الاندماجات ــ تُكبح في الأبعاد الأعلى.
ما وراء الأفق
ومع ذلك فإن تصادمات الثقوب السوداء ليست هي الطريقة الوحيدة لإبعاد أفق الحدث. تُعرف إحدى أشهر أفكار ستيفن هوكنغ باسم إشعاع هوكنغ Hawking radiation: قد يتبخر ثقب أسود ببطء شديد إلى أن يزول بفعل تسرب الجسيمات مرة أخرى إلى الفضاء.
يقول البروفسور شاهار هود Shahar Hod من مركز روبين الأكاديمي Ruppin Academic Center: “قد تحوِّل عمليةُ تبخر إشعاع هوكنغ ثقباً أسود مشحوناً كهربائياً إلى نقطة منفردة عارية بلا أفق حدث حولها”. ولكن ثقب هود الأسود مشحون (كهربائياً) إلى أقصى حد ممكن. لكن هذا قد يكون مبالغا فيه، إذ سيحدُث امتصاص أي شحنة كهربائية بسرعة من قبل سُحُب المادة التي تتجمع حول أفق الحدث. ومع ذلك فهو يفترض أن الثقب الأسود عالي الشحنة هو معادل للثقب الذي يدور بسرعة كبيرة: “من المتوقع وجود مثل هذه الثقوب السوداء سريعة الدوران في مراكز المجرات”.
وقد يكون من الممكن حتى أن يتشكل الثقب الأسود من دون أفق حدث على الإطلاق ـــ عارياً عند ولادته، مثلنا تماماً. درس فريق بقيادة الدكتور ياسر توكُّلي Yaser Tavakoli، من جامعة غيلان University of Guilan في إيران، انهيار سُحُب الغبار في كون نظري خماسي الأبعاد. وقد وجدوا أن هناك عتبة كتلة Mass threshhold للسحابة، التي ستتقلص لو كانت أقل منها لتشكل ما يسميه توكّلي “الحدث المنفرد المفاجئ” Sudden singularity. بعبارة أخرى، ثقب مرئي بوضوح لراصد خارجي.
ولذا يبدو أن هناك عدداً من الطرق لتحقيق الحدث المنفرد العاري، لا سيّما في نظريات الجاذبية التي تسعى إلى تجاوز النسبية العامة. وإذا كان لنا أن نصل إلى إدراك أي من هذه الأفكار- إن وجدت- هي على المسار الصحيح، فإن العثور على نقطة منفردة عارية سيساعد على ذلك بالتأكيد.
وفقاً لويــ سيانغ شاو Wei-Hsiang Shao، من جامعة تايوان الوطنية National Taiwan University، قد يكون هذا أمراً صعباً: إذ يؤدي الثقب الأسود العاري عملاً جيداً بتنكره في صورة ثقب يتغلف بأفق الحدث. لقد نظر على وجه التحديد إلى الظلال التي تلقيها الثقوب السوداءــ المناطق المعتمة حولها بسبب قوة الجاذبية المحلية الشديدة. اشتهرت هذه الظلال بفضل أول صورة على الإطلاق لثقب أسود التقطها تلسكوب أفق الحدث Event Horizon Telescope في العام 2019، وجرى تحديثها مرة أخرى في وقت سابق من هذا العام. بدا ظل الحدث المنفرد العاري مألوفاً بنحو غريب. ويقول في المقال الذي يفصِّل أبحاثه: “تشبه ملامح الظل إلى حد كبير تلك المُميّزة لثقب أسود (عادي)”.
بديل مثير للاهتمام
لحسن الحظ، يعتقد الدكتور ديبانجان داي Dipanjan Dey، من جامعة شاروسات Charusat University في الهند، أن هناك طريقة أخرى يمكن أن يكشف بها الثقب الأسود العاري عن نفسه: بالطريقة التي يؤثر بها في النجوم التي تدور حوله. لقد اكتشف أن وجود ثقب أسود من دون أفق حدث سيسبب دوران النجوم بنحو مختلف. فالمبادرة Precession هي ظاهرة فلكية شائعة، تتغير فيها أقرب نقطة يصل إليها الجرم إلى الجرم الذي يدور حوله في الدورات المتتالية، مما يخلق مداراً يشبه ما قد يرسمه جهاز تخطيط التنفس. استخدم داي هذه الحقيقة للتنبؤ بالمسارات المستقبلية للنجوم التي تدور حول الثقب الأسود الرامي أ* (Sagittarius A*) الهائل في قلب مجرتنا درب التبانة.
تستغرق النجوم عَقداً أو أكثر لإكمال دورة واحدة حول الثقب الأسود، وقد بدأنا نبحث فقط في منتصف تسعينات القرن العشرين، لذا لم نرَ حتى الآن كثيراً من النجوم التي تكمل مدارات متتالية. وإذا تطابقت أرصادنا مع حسابات داي في السنوات المقبلة، فقد تكون أول دليل مباشر على أن الثقب الأسود يمكن أن ينتهك افتراض بنروز عن الرقابة الكونية الضعيفة. وبذلك يمكن فتح الباب أمام نظريات بديلة عن قوة الجاذبية قد تزيح النسبية العامة يوماً ما من عليائها.