الحياة والموت في سماء الليل
مسيرة حياة النجوم مكتوبة عبر السماء يشرح لنا ستيوارت آتكينسن كيف يمكنك رؤية كل مرحلة بنفسك
طوال سنواتٍ نشطت في نشر علم الفلك في المدارس، وسمعت الكثير من الأسئلة، ولكن كان هناك سؤال فاجأتني إجابتي عنه. فأثناء شرح موضوع حياة النجوم وموتها، سألني طالب يافع، “كيف نعرف ذلك؟”. نظرت من النافذة إلى حقل قريب، وقلت: “لأن النجوم مثل الخراف هناك. انظر هناك حمل صغير يلعب، وخروف كبير يأكل العشب، وهناك بجانب الجدار شاة نافقة. يمكننا أن نرى النجوم تولد، والنجوم التي كبرت، وأيضاً، النجوم التي تموت أو ماتت”.
هذه مقارنة جيدة. نحن نعلم كيف تتشكل النجوم، وتحيا، وتفنى في النهاية، لأن السماء ممتلئة بنجوم في مراحل مختلفة من حياتها. وبعد قرون من رسم الخطوط بين تلك النقاط المؤقتة، نحن نفهم الآن تطور النجوم بصورة جيدة إلى حد ما ويمكنك أن ترى هذه العملية بنفسك، بالتنقل عبر سماء الليل بعينك المجردة، والمنظار المزدوج، والتلسكوب.
لنبدأ بأصغر النجوم. فمعظم النجوم، بغض النظر عن مدى سخونتها أو حجمها، تولد في سحب ضخمة من الغبار والغاز تسمى السدم Nebulae. وقد نشأت شمسنا نحن في إحدى هذه الحاضنات النجمية قبل نحو 4.5 بليون سنة، جنباً إلى جنب مع النجوم الأخرى التي ابتعدت عنها منذ فترة طويلة. وعندما تنمو النجوم داخل السدم، تصير أكثر كثافة وسخونة لأنها تجمع المزيد من الغاز والغبار، وينبعث منها ضوء وإشعاعات أخرى تجعل السديم يتوهج. والعديد من السدم يظهر في سماء الليل كبقع ضوء ضبابية. أشهرها هو سديم الجبّار Orion Nebula ،M42، والذي يلمع في وسط سيف الجبّار، أسفل حزامه الأكثر شهرة.
بداية مع الجبّار
يبعد سديم الجبّار مسافة 1,500 سنة ضوئية من الأرض، وينتشر على مسافة تزيد على 24 سنة ضوئية. تُظهر المناظير المزدوجة السديم M42 بصورة لطخة صغيرة، وتكشف التلسكوبات الصغيرة عن سحابة ريشية الشكل بلون رمادي وأخضر، تتناثر الكثير من النجوم في مركزه؛ لكن مشهده بتلسكوبات أكبر فتحة يبدو مذهلاً، بأقواس وضفائر من غيوم ساطعة تتألق خلف خطوط داكنة وتدفقات من سحب الغبار. وفي وسطه تتلألأ نجوم المعين Trapezium، وهي مجموعة ضيقة من أربعة نجوم زرقاء كالجليد.
وعلى الرغم من سطوع السديم M42 (+4 .mag) مما يجعله مرئياً بالعين المجردة، إلا أنه لم يسجل من قبل علماء الفلك القدماء؛ إلى أن رسم كريستيان هايغنز Christiaan Huygens أول شكل له في عام 1656 (في اليسار). وكشفت صور تلسكوب هابل ذات التعريض الضوئي الطويل عن 700 نجم فتي في مركز السديم، منها 150 نجماً محاطة بأقراص من المادة.
غالباً ما تمر ملايين السنين بعد ولادة تلك النجوم الفتية، حتى تكبر في النهاية وتنطلق من حواضنها السديمية لتحلق بحرية في الكون. في الليالي المعتمة، غير المقمرة، يمكنك رؤية العديد من مجموعات صغيرة من النجوم الفتية متناثرة في السماء كما لو أنها وزعت عليها بفرشاة رسم. إنها عناقيد نجمية Star clusters: مجموعات من النجوم الناضجة تحلق معاً عبر الفضاء مثل سرب طيور، وتربطها قوة الجاذبية ببعضها البعض.
في ليالي الخريف والشتاء في نصف الكرة الشمالي، يمكن للراصدين مشاهدة عنقود الثريا Pleiades ،M45، وهو أشهر عنقود نجمي في السماء. ويتلألأ هذا العنقود المفتوح في الطرف العلوي الأيمن من سديم الجبّار (سطوع
+1.5 mag.)، ويمكن للعين المجردة أن تراه بوضوح على شكل ‘محراث أو دب أكبر صغير’. ويستطيع أولئك الذين يتمتعون ببصر جيد رؤية أعضاء العنقود السبعة الأكثر سطوعاً، ولذا أطلق عليهم لقب الأخوات السبع Seven Sisters، على الرغم من أن بعض الأشخاص يزعم رؤية ما يصل إلى 12 نجماً أو أكثر من أعضائه البالغ عددهم نحو 500 نجم.
يقع العنقود M45 على بعد 430 سنة ضوئية من الأرض، وينتشر على مسافة 15 سنة ضوئية تقريباً. وتُظهر صور طويلة التعريض الضوئي وجوده في شبكة مزركشة من ضباب سحابي أزرق، اعتدنا على الاعتقاد أنه كان مادة متبقية من عملية بناء النجوم، لكنه في الواقع مجرد سحابة من الغبار والغاز بين النجوم يعبرها العنقود الآن.
اقبض على الشمس
مع مرور الوقت تستمر النجوم بالتقدم في السن. شمسنا هي نجم نموذجي إلى حد ما. وُلد في سديم قديم منذ نحو 4.5 بليون سنة، وهو الآن في منتصف عمره البالغ عشرة بلايين سنة. نعلم ذلك لأنه يمكننا أن ننظر إلى النجوم الأخرى التي هي أكبر عمراً في دورات حياتها. بمقارنة شمسنا بنجوم مماثلة، يمكننا أن نقول إنها في مستقرة تماماً في جزء هادئ من ذراع حلزونية هادئة بالقرب من حافة مجرة درب التبانة، ولا تزعج أحداً، فقط تحرق بثبات مخزونها من الوقود.
ومن الناحية الفيزيائية شمسنا هي كرة هائلة من الهيدروجين، يبلغ قطرها 1.3 مليون كيلومتر تقريباً، تدور الأرض على مسافة 150 مليون كم منها، في مدة 365 يوماً تقريباً. ولكن حتى مع هذه المسافة الكبيرة، إذا انطفأت الشمس الآن، فستكون هناك ثماني دقائق قبل أن يظلم كل شيء. ومع ذلك لن تموت الشمس قبل خمسة بلايين سنة أخرى. ستتضخم أولاً لتصير نجماً عملاقاً أحمر Red giant اللون قبل أن تنفجر طبقاته الخارجية، ثم يتقلص ويبرد، وينهي أيامه كنجم قزم أبيض White dwarf فائق الكثافة بحجم كوكب.
إلى الشمال من سديم الجبّار، يسطع النجم البرتقالي اللامع منكب الجوزاء Betelgeuse. إنه النجم الثاني سطوعاً في كوكبة الجبّار، والتاسع في السماء كلها
)سطوع +4.5 mag.). ويبعد منكب الجوزاء عنا مسافة تقدر بـ 650 سنة ضوئية تقريباً، وهو أكثر سطوعاً من شمسنا بـ 135,000 ضعف، وهو ضخم الحجم إلى درجة أننا لو وضعناه في مكان الشمس، فسيبتلع معظم الكواكب الداخلية وحزام الكويكبات وسيبلغ محيط كوكب المشتري. إن منكب الجوزاء هو الآن في مرحلة الغروب من حياته. وعلى العكس من مثال شمسنا التي ستنهي أيامها بهدوء، فهو سينهي حياته بصورة انفجار كارثي هائل سوبرنوفا (مستعر أعظم) Supernova.
متى سيحدث ذلك؟ لا نعلم. في عيد الميلاد الماضي عندما تعرض منكب الجوزاء لزيادة في سطوعه بعد انخفاض مفاجئ، تساءل العديد من مراقبي النجوم المتحمسين عما إذا كان النجم يوشك أن ينفجر. وعلى الرغم من ذلك، فقد ازداد سطوعه تدريجياً، ليعود الآن إلى طبيعته. لذا، يبدو منكب الجوزاء لنا الآن في أمان. وذات يوم سوف ينفجر ويسطع في سماء الأرض ليلاً أكثر من القمر البدر، بل سيكون مرئياً نهاراً كشرارة فضية ساطعة؛ وهو أمر نتطلع إلى رؤيته.
وعلى الرغم من أن النجوم التي لها ذات كتلة شمسنا لا تتعرض لكل عوارض حادثة انفجار السوبرنوفا، إلا أنها تقدم عرضاً قبل أن تموت. وبدلاً من انفجارها، فهي تقذف طبقاتها الخارجية بصورة عدد من الأغلفة الغازية والغبارية الملونة. وبرؤيتها من خلال تلسكوب صغير، تبدو هذه كأنها حلقات دخانية أو حتى أقراص، ولهذا السبب جرى الخلط بينها وبين الكواكب عندما شوهدت أول مرة منذ قرون، وأطلق ويليام هيرشل William Herschel عليها بالفعل اسم ‹سدم كوكبية› Planetary nebulae.
حلقة مألوفة
يمكن العثور على أحد أفضل الأمثلة على السديم الكوكبي في كوكبة القيثارة Lyra، جنوب نجم النسر الواقع Vega الساطع. سديم الحلقة Ring Nebula ،M57، الذي يبعد مسافة 2000 سنة ضوئية تقريباً عن الأرض، اكتشفه عالم الفلك الفرنسي أنطوان داركييه دو بيليبوا Antoine Darquier de Pellepoix i في عام 1779، قبل أن يكتشفه شارل ميسييه Charles Messier بشكل مستقل ويضيفه إلى فهرسه. وبالمنظار المزدوج يبدو السديم بصورة نجم بسطوعه +9.0 mag. ولون أخضر باهت، على الرغم من أن التلسكوبات الصغيرة ستظهره بصورة حلقة دخان متدلية قليلاً، تميل إلى لون أخضر مزرق. وقد تتمكن التلسكوبات الأكبر حجماً والصور الأطول تعريضاً من كشف نجم محتضر (سطوع +15 mag.) في مركز السديم. والنظر إلى السديم M57 والتفكير في أنك تنظر إلى مستقبل الزمن عندما تموت شمسنا ليبعث على الرهبة.
وهكذا نصل إلى المحطة الأخيرة في جولتنا السياحية عبر حياة نجم، البقايا الشبحية لنجم ميت، سديم السرطان Crab Nebula.
بعد حلول عتمة ليلة 4 يوليو من عام 1054، انبهر مراقبو السماء الصينيون وخافوا لرؤيتهم نجما جديدا يتألق في كوكبة الثور Taurus the Bull. وسرعان ما صار هذا النجم ساطعاً لدرجة أنه تفوق على أي نجم آخر في السماء. وبلغت ذروة سطوعه 6.0+ mag.، وفاق كل شيء آخر في السماء عدا الشمس والقمر، وكان مرئياً نهاراً طوال شهر تقريباً قبل أن يضعف ويتلاشى.
وبعد قرون كان شارل ميسييه يطوف بتلسكوبه عبر كوكبة الثور بحثاً عن مذنب عام 1758، وشاهد بقعة ضبابية صغيرة تقع بين قرني الثور. وسجل موقعه بدقة كي لا يخلطه مرة أخرى بمذنب، وأطلق عليه اسم ‘M1’، وبدأ يضع قائمة بالأجرام الأخرى المربكة مثله، وهي التي ستعرف لاحقاً بفهرس ميسييه Catalogue Messier الشهير، والتي سمعنا بالفعل عن كثير منها.
بعد قرن تقريباً، عندما رصد اللورد روسي Lord Rosse السديم بتلسكوب ليفياثان Leviathan من أرض قلعة بير Birr Castle، أطلق على بقعة الغاز الشبحية رمادية اللون تلك اسم ‘سديم السرطان’، وذلك لشبهها الغريب جداً بسرطان البحر. وبالنسبة إلى الكاميرات الحديثة، يبدو السديم M1 بصورة رذاذ معقد من خيوط رمادية وخضراء. فالسديم M1 هو بقايا سوبرنوفا تنتشر ببطء بعد انفجار نجم هائل أنهى أيام حياته بصورة انفجار سوبرنوفا قبل أكثر من 6,000 سنة قبل الضوء الذي بهر ضوء دماره الأعين المشدوهة لأولئك المراقبين الصينيين. إنه يقدم نهاية رائعة لجولتنا عبر
حياة النجوم.