تــــــذكّــــَرْ روزيــــتــــا
مع وصول المذنَّب 67P/ تشيوريوموفــجيراسيمنكو إلى أقرب موقع للشمس في مداره، تنظر إيزي بارسن إلى ما علَّمتنا إياه مهمة روزيتا عن تلك الأجرام الجليدية المتجولة في مجموعتنا الشمسية
د. إيزي بارسن Ezzy Pearson:
محررة إخبارية في مجلة سماء الليل BBC Sky at Night Magazine. تحمل درجة الدكتوراه في علم الفلك خارج المجري
في يوم 3 نوفمبر 2020، زار الشمس مرة أخرى أحد المسافرين المتجمدين في المجموعة الشمسية- المذنَّب 67P/تشيوريوموف-جيراسيمنكو 67P/Churyumov-Gerasimenko. ومثل جميع المذنَّبات، فالمذنَّب 67P هو قطعة بقيت من زمن تشكل الكواكب؛ كبسولة زمن تحتوي على لمحة مما كانت عليه المجموعة الشمسية في أثناء تشكلها قبل 4.5 بليون سنة.
من خلال فهم المذنَّبات، يمكن لعلماء الفلك جمع أجزاء تاريخ نظامنا الكوكبي معاً. ومن أجل ذلك أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية (اختصاراً: الوكالة إيسا ESA)، في العام 2004، مهمة إلى المذنَّب 67P، وبدأت عملية استكشاف هي الأكثر تفصيلاً لمذنب على الإطلاق. سيكون هذا المذنَّب بمنزلة “حجر رشيد” الذي سيسمح لهم بكشف أسرار جميع المذنَّبات الأخرى- ولذلك سميت المهمة بـ“روزيتا” Rosetta.
وصلت مركبة روزيتا إلى المذنَّب 67P بتاريخ 6 أغسطس 2014، وقضت أكثر من عامين في الدوران حوله في أثناء اقترابه من الشمس. راقبت المركبة عملية التسامي السطحي Surface sublimate، التي يتحول الجليد فيها مباشرة إلى غاز، ويتكون ذيله الجميل. وفحَص مطيافها Spectrometer الغازَ والغبار الخارجين من المذنَّب 67P ليتشمم المواد الكيميائية التي تنطلق عند ذوبان جليده. وتمكنت الوكالة إيسا من إنزال مركبة هبوط بحجم غسالة منزلية، تسمى فيلة Philae، على سطحه، لتحقق بذلك إنجازاً تاريخياً تمثل في أول هبوط سلس على مذنَّب.
ومن الصور الأولى التي أعادتها روزيتا، تولدت الاكتشافات. ففي أثناء اقترابها من المذنَّب، اكتشفت المركبة أن 67P هو مذنب ذو فصين مزدوجين، بقسمين دائريين يلتصقان معاً في تكوين شبهه كثيرون بدمية بطة مطاطية. أما عندما دخلت روزيتا في مدار حول 67P، فقد بدأت الدراسة الحقيقية، إذ صارت المركبة الفضائية قادرة على النظر في كل طرف من أطراف المذنَّب.
ناقل المياه
ركز عديد من أدوات روزيتا على سحابة الغاز والغبار التي تدور حول المذنَّب- ذؤابته Coma. درست إحدى عمليات القياس نسبة الماء العادي إلى الماء “الثقيل” Heavy water، الذي يحتوي على نيوترون إضافي. هذه النسبة- المعروفة باسم نسبة الديوتيريوم إلى الهيدروجين أو D/H- تظل من دون تغير بمرور الوقت. على هذا النحو يمكن لعلماء الكواكب استخدامها لتتبع حركة المياه عبر تاريخ مجموعتنا الشمسية. تساءل علماء الكواكب على مدى عقود عما إذا كانت المذنَّبات قد جلبت الماء إلى الأرض المبكرة. إذا كان هذا قد حصل فعلاً، فيجب أن تكون نسبة D/H للمذنبات هي نفسها التي على الأرض.
تقول البروفسورة كاثرين ألتويغ Kathrin Altwegg، وهي مديرة مشروع الأداة ROSINA التي نفذت عملية القياس على متن المركبة روزيتا: “كانت النسبة D/H أعلى منها في أي مذنب درسناه حتى الآن، وهذا ما أجاب عن [سؤال] ما إذا كانت مياهنا الأرضية قد جاءت من المذنَّبات. وكانت الإجابة: لا. كانت الفكرة القديمة هي أن كل المياه الموجودة على الأرض قد جاءت من المذنَّبات. الآن نعلم أنها ربما كانت السبب في أقل من %1 من المياه الموجودة على سطح الأرض”.
هذا لا يعني أن المذنَّبات لم تجلب أي شيء مهم للأرض، إذ كشفت روزيتا أنها ربما كانت مفيدة في نقل مكونات الحياة إلى كوكبنا.
تقول آلتويغ: “لقد وجدنا الغلايسين Glycine. إنه أبسط حمض أميني، وهو ضروري للحياة. وقد مثَّل العثور عليه في جرم بدائي شديد البرودة وبلا حياة أمراً مفاجئاً. كما وجدنا الفوسفور أيضاً، وهو عنصر رئيس آخر للحياة. من المحتمل أن تكون معظم الكتلة الحيوية اليوم قد نقلتها المذنَّبات إلى الأرض”.
وفي الوقت نفسه ركزت أدوات أخرى على نواة المذنَّب الجليدية. استخدمت تجربة سبر نواة المذنَّب من خلال إرسال الموجات الراديوية (اختصاراً: الرادار CONSERT) للنظر داخل المذنَّب، ووجدت أن الجسم لم يكن كتلة صلبة من الجليد، بل في الواقع مجموعة من الحصى الرخو. وما يقرب من %75 إلى %85 من حجم المذنَّب هو فراغ، مما يشير إلى أنه تشكل من عديد من الأجسام الصغيرة التي تصطدم بعضها ببعض بسرعات بطيئة، بدلاً من اصطدام عالي السرعة بين جسمين كبيرين.
هبوط عنيف
ومع ذلك فقد تبين أن السطح صلب بقدر ملحوظ- وهو أمر اكتشفه فريق علماء روزيتا بطريقة صعبة عندما حاولوا إنزال مسبار فيلة. كان من المفترض أن تهبط المركبة فيما يبدو أنها منطقة مغطاة بالغبار، تُعرف باسم أجيليكا Agilika. في يوم 12 نوفمبر 2014 ابتهج فريق الهبوط عندما عادت الإشارة اللاسلكية لتخبرهم بهبوط المركبة. لكن فرحتهم لم تدم طويلاً- فقد بدا أن الغبار كان مجرد طبقة رقيقة تغطي سطحاً صُلباً. وتحطم كثيرٌ من الأجهزة التي كان يفترض فيها أن تثبت فيلة على السطح في أثناء العبور، ولذا فقد ارتد المسبار عن المذنَّب الصلب بنحو غير متوقع.
أمضت فيلة ساعتين وهي تنجرف فوق سطح المذنَّب 67P، وعادت في النهاية لتهبط إلى جنوب موقع هبوطها المخطط بمسافة كيلومتر واحد، في منطقة تسمى أبيدوس Abydos. حط المسبار على جانبه، وهو ما يعني أن مثقاب الحفر لا يمكن أن يمتد بنحو صحيح ويجمع عينة من الجليد. ومما زاد الأمر سوءاً أن المسبار فيلة انتهى به المطاف في ظل جرف، حيث لم تتمكن ألواحه الشمسية من إعادة شحن بطاريته، لذا فقد عمل مدة 64 ساعة فقط هي ما سمحت به البطارية.
وعلى الرغم من أن المسبار فيلة لم يحقق سوى عدد قليل من أهدافه، إفإنه تمكن من إلقاء نظرة جيدة على سطح المذنَّب وذلك في موقعين. أظهر الموقعان تضاريسَ شديدة التنوع: ففي حين كان موقع آجيليكا هو حقلاً من الغبار الأملس مع معالم عصفت بها الرياح، كان موقع أبيدوس منطقة مظلمة ووعرة من الجليد الصلب والمنحدرات الخشنة. كشفت الاهتزازات التي أحدثها فيلة أن الطبقة الصلبة تبدو كأنها سمة عامة عبْر جسم المذنَّب. ويبدو أن الدورة المستمرة من التجمد والذوبان مع اقتراب المذنَّب من الشمس قبل العودة إلى أعماق الفضاء قد خلقت قشرة صلبة تحيط بمركز النواة الهش.
زيادة في الغاز
مع اقتراب المذنَّب 67P من الشمس، سجلت روزيتا ارتفاع درجة حرارة المذنَّب من -°70س إلى ما دون الصفر بقليل، وتزايدت كمية الغاز المنبعثة تزايداً مطرداً. وعند وصول المركبة أول مرة، أطلق المذنَّب نحو 300 غرام من الماء في الثانية فقط- ما يقرب من كمية كوب من الماء. وبحلول الوقت الذي وصل فيه المذنَّب إلى الحضيض Perihelion بتاريخ 13 أغسطس 2015، زاد هذا الرقم بمقدار ألف ضعف، وكان المذنَّب 67P يبث بخاراً يعادل مياه حوضي استحمام في الثانية الواحدة.
هذه الكمية الهائلة من المواد الآتية من المذنَّب جعلت البقاء في مدار حوله أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة إلى روزيتا. فقد كان النسيم القوي يندفع باستمرار على سطح مساحته 32 م2 من الألواح الشمسية للمركبة التي كانت تكافح للبقاء قريبة منه، في حين قصف الغبار أيضاً هيكلها بالكامل.
لكن روزيتا نجت، وبقيت في مدار حول المذنَّب مدة عام آخر. ومع انتقال المذنَّب 67P إلى أعماق الفضاء بعيداً عن الشمس الدافئة، فقد عاد إلى النوم ببطء. وبهجوع المذنَّب مرة أخرى، انتهى عمل روزيتا. في 30 سبتمبر 2016 بدأت روزيتا هبوطاً بطيئاً نحو بقعة ناعمة على الفص الأصغر للمذنب قبل أن تهبط على سطحه لترتاح عليه إلى الأبد.
لكن فترة الراحة هنا على الأرض ستكون أقصر بكثير. إذ يواجه فريق علماء روزيتا الآن المهمة المعقدة المتمثلة في دمج معظم البيانات التي جمعت في أثناء المهمة الطويلة للمركبة، وتنظيم المعلومات لجعلها مفيدة وسهلة التفسير قدر الإمكان.
تقول البروفسورة مارينا غالاند Marina Galand من إمبريال كوليدج لندن، وهي أحد العلماء العاملين اليوم على معالجة بيانات روزيتا: “كان هذا الدمج أمراً شديد الأهمية. الآن لدينا مجموعة البيانات المذهلة هذه متاحة لمعظم العلماء، حيث يمكنك إلقاء نظرة على التغييرات على مدار موسم، وعبر مسافة مركزية الشمس Heliocentric distance، وعبر خط العرض Latitude”.
والأهم من ذلك هو أن تجري الآن معايرة مجموعة البيانات بنحو صحيح. في السابق كان الباحثون قادرين على تفسير تجربة واحدة فقط من أداة واحدة فقط، ولكن في وسعهم الآن مقارنة البيانات عبر معظم أدوات روزيتا، وعددها 11 أداة.
تقول غالاند: “باستخدام آلة واحدة يمكنك التعلم حتى نقطة معينة. عندما تبدأ في الحصول على أدوات مختلفة أو أنواع مختلفة من الأرصاد، يمكنك البدء في ملاءمة قطع اللغز كلها معاً. وهذا يعزِّز المردود العلمي”.
مزيد من الاكتشافات
نُشرت هذه البيانات المدققة للجمهور في العام 2019، ومنذ ذلك الحين والباحثون يدققون فيها، ليؤدي هذا إلى عدد كبير من الاكتشافات. فعلى سبيل المثال نظرت غالاند وفريقها العلمي في انبعاثات الأشعة فوق البنفسجية البعيدة Far-ultraviolet في ذؤابة المذنَّب. وعلى الرغم من اكتشاف الإشعاع بمطياف مركبة روزيتا للأشعة فوق البنفسجية، آليس ALICE، فإن هذه الأداة لم تتمكن من تحديد مصدر الانبعاثات من تلقاء نفسها.
تقول غالاند: “استخدمنا مجموعات من البيانات من أدوات مختلفة. استخدمنا آليس، التي نظرت في سطوع انبعاثات معينة؛ ونظرت أداة أخرى في تدفقات الإلكترونات النشطة. كما قسنا كثافة الغاز باستخدام الأشعة تحت الحمراء Infrared”.
مع كل هذه المعلومات تمكن الفريق من تأكيد أن الانبعاثات جاءت من شفق قطبي Aurora متراقص، يغلف المذنَّب في أثناء عبوره حول الشمس. وعندما كان هذا الانبعاث فوق البنفسجي غير مرئي للعين البشرية، كانت هناك لمحات من انبعاث 630 نانومتراً ناتجاً عن الأكسجين، وهو المسؤول عن الألوان الحمراء التي تظهر في الشفق القطبي على الأرض. ولحسن الحظ، فإن عودة المذنَّب إلى نقطة حضيضه الشمسي توفر فرصة مثالية لإلقاء نظرة أخرى على هذا الانبعاث.
تقول غالاند: “لم نتمكن من مراقبة المذنَّب عند الحضيض من قبل، لأنه كان على الجانب الآخر من الشمس بالنسبة إلى الأرض”. ولكن الحال ليست كذلك في هذه المرة، ويخطط كثير من الفرق العلمية لرصده في شهر نوفمبر. وتقول: “سيعطينا هذا إطاراً أشمل، لأننا رأيناه من قرب، والآن يمكننا أن نراه من منظور مختلف”.
هنا يكمن الإرث الحقيقي لمهمة روزيتا. قبل هذه المهمة المدارية، لم يفكر أحد في البحث عن شفق قطبي حول مذنب، لكنهم الآن يعرفون أنه موجود، يمكن لعلماء الفلك استخدام التلسكوبات الأرضية للبحث عنه حول المذنَّب 67P– أو أي مذنب آخر. وهذه دراسة واحدة فقط، بحثت في البيانات عدة أشهر فقط. وهناك مزيد من الاكتشافات تنتظر أن يكشف عنها مع تعمق علماء الفلك في البيانات.
تقول غالاند: “اليوم ما زال العلماء ينشرون البيانات المستخلصة من مهمة جيوتو Giotto التي حلَّقت بالقرب من مذنب هالي Halley’s Comet، والتي نتجت من تحليق عدة ساعات فقط في العام 1986. أما هنا فلدينا بيانات على مدى عامين، ولم ننظر بعد في كامل ثروتها”.
هكذا، وبينما تكون مهمة روزيتا قد انتهت، يكون إرثها العلمي قد بدأ في البزوغ من فوره.