الـنـجـوم المـستـحيـلـة
في ثلاثينات القرن العشرين، حسب سابرامانين تشاندراسخار Subrahmanyan Chandrasekhar الحد الأقصى لكتلة النجوم القزمة البيضاء
على مدى عقود اعتمد علماء الفلك على الحجم الموحد للسوبونوفات من النوع Ia لمساعدتهم على قياس الكون. ويستعرض كولين ستيوارت النجومَ المستحيلة التي تلقي بظلال من الشك على هذه المسطرة الكونية.
كيف يقيس علماء الفلك المسافات في الفضاء؟ حتى الآن لم نرسل أي شيء خارج حدود المجموعة الشمسية، ومع ذلك نتحدث بتواتر وبثقة عن بُعد النجوم والمجرات عنا.
يعتمد رسم المسافات السماوية على أداة تسمى “سُلَّم المسافة الكونية” Cosmic distance ladder، وهي في الواقع مجموعة من التقنيات المختلفة المترابطة (انظر: الإطار، الصفحة 34). وإحدى الطرق الرئيسية هي استخدام الشموع القياسية Standard candles، وهي أجرام فلكية ذات سطوع ذاتي ثابت Consistent inherent brightness. كلما بدت باهتة بالنسبة إلينا مقارنة بهذا السطوع الحقيقي، كان بُعدُها عنا أكبر.
من بين الشموع القياسية الأكثر شيوعاً نوع من النجوم المتفجرة يُسمى سوبرنوفا
(المستعر الأعظم) من النوع Ia (Type Ia supernova). ففي ثلاثينات القرن العشرين كان الفيزيائي سوبراهمانيان تشاندراسيخار Subrahmanyan Chandrasekhar البالغ من العمر 19 عاماً يبحر من منزله في الهند للدراسة في أوروبا. وخلال رحلته التي استغرقت ثلاثة أسابيع، قضى الوقت في التفكير في أشياء تسمى الأقزام البيضاء White dwarfs، والتي تتشكل عندما تموت نجوم مثل الشمس. وحَسَب تشاندراسيخار أن هناك حداً لمدى ثقلها :1.4 ضعف كتلة شمسنا، وهي العتبة المعروفة الآن بحدّ تشاندراسيخار Chandrasekhar Limit.
يقول سوراجيت كاليتا Surajit Kalita، من المعهد الهندي للعلوم في بنغالور Indian Institute of Science: “لا يمكن الحفاظ على وضعية قزم أبيض فوق هذه الكتلة لأنها ستنفجر”. فهذا هو الانفجار الذي نراه سوبرنوفا من النوع Ia. ويُعتقد أن الانفجارات تحدث عندما يندمج قزم أبيض في نجم مجاور أو يسرق مادة منه عن طريق اقتناص الغاز منه بفعل جاذبيته القوية.
استثناءات من القاعدة
إذا كانت معظم السوبرنوفا Ia ناتجة من أقزام بيضاء ذات كتل حول حدّ تشاندراسيخار، فيجب أن تنفجر معظمها عند توفر كمية الوقود نفسها. لذلك يجب أن تتماثل جميعاً من حيث السطوع الذاتي Inherent brightness أيضاً. وتلك التي تبدو باهتة لنا يجب أن تقع في مجرات بعيدة. وهذا هو حجر زاوية راسخ في علم الكوزمولوجيا Cosmology لدرجة أن علماء الفلك استخدموا السوبرنوفات Ia لتحقيق اكتشاف تاريخي في عام 1998: يبدو أن توسع الكون يتسارع. إذ بدت السوبرنوفات البعيدة أكثر خفوتاً مما ينبغي أن تكون عليه، مما يعني أنها ابتعدت عنا أكثر مما كنا نعتقد في السابق. فالتفسير الأكثر شيوعاً لذلك هو الطاقة المعتمة
Dark energy- قوة غامضة تدفع المجرات بشكل متزايد بعيداً عن بعضها البعض مع توسع الكون.
ومع ذلك، كما هي الحال غالباً، فالأمور ليست بسيطة كما تظهر لأول مرة. ففي عام 2003 اكتشف علماء الفلك شيئاً يبدو مستحيلاً “سوبرنوفا Ia” بسطوع يشير إلى أن حدّ تشاندراسيخار المقدس قد تم اختراقه. فقد كان ذلك اكتشافا مهما لدرجة أنه سرعان ما أطلق عليه وصف “سوبرنوفا الشمبانيا” Champagne Supernova في إشارة إلى أغنية آويسيس Oasis التي تحمل الاسم نفسه. ومنذ ذلك الحين اكتشف علماء الفلك ما لا يقل عن اثنتي عشرة سوبرنوفا من تلك المتمردة والخارقة للقوانين. ويبدو لبعضها ضعف كتلة حدّ تشاندراسيخار. وإذا تسلل المزيد من هذه النجوم “المستحيلة” إلى بياناتنا خفية، فمن الممكن أنها سيقلل من دقة قياسات المسافة الكونية. ففي المقابل، فقد يلقي هذا ظلال الشك على فكرة الطاقة المعتمة بكاملها والتوسع المتسارع Accelerating expansion للكون.
يقول كاليتا: “قد نحتاج إلى تعديل الأقزام البيضاء أو التخلص منها كشموع قياسية”. لحسن الحظ، سعت سلسلة من الأبحاث الحديثة إلى الوصول إلى قعر هذا الغموض المتعمق.
فقط لأننا نرى سوبرنوفا ساطعة بشكل خاص، فهذا لا يعني بالضرورة أن القزم الأبيض المعني قد كسر حدّ تشاندراسيخار. ففي سبتمبر أعلن فريق دولي بقيادة إريك هسياو Eric Hsiao من جامعة ولاية فلوريدا عن ملاحظاته لما يبدو أنه سوبرنوفا “تشاندراسيخار فائقة” Super-Chandrasekhar يسمى السوبرنوفا LSQ14fmg. وخلصوا إلى أن نجماً اندمج في قزم أبيض، فتضخّم إلى حد تشاندراسيخار؛ مما دفعه إلى الانفجار. وبعد ذلك تحطم السوبرنوفا الناتج في مادة سبق أن طردها النجم قبل الاندماج، مما تسبب في ارتفاع درجة السطوع. ولم يخالف القزم الأبيض القوانين في أي وقت.
ومع ذلك، فوفقاً لفريق بقيادة ليديا أوسكينوفا Lidia Oskinova من جامعة بوتسدام University of Potsdam، فإنه لا يمكن أن يكون هذه هي الحال دائماً. ففي ديسمبر نشرت ملاحظاتها الرصدية عن جرم يسمى النجم IRAS 00500 + 6713. وهو نجم مركزي يقع في سحابة غاز عملاقة. تقول: “لقد رأينا شيئاً غير متوقع”. إذ يبدو أن النجم المركزي هو نتاج اندماج قزم أبيض تجاوز حدّ تشاندراسيخار. وهو مصدرٌ لإشعاع قوي من الأشعة السينية، وكشف تحليل تلك الأشعة السينية أنه قد خضع لتحول في الشكل Shape-shift إلى نوع آخر من النجوم. وتضيف قائلة: “وبذا، فإنه قد تتجاوز حدّ تشاندراسيخار لأنه لم يعد قزماً أبيض”.
لو كان جرم أوسكينوفا حقاً قزم تشاندراسيخار فائقاً أبيض، لكانت هذه هي المرة الأولى التي يرصد فيها مثل هذا الجرم- حتى الآن استنتجنا وجودها فقط من السوبرنوفات الساطعة التي رصدناها بالفعل. وعدم رؤية إحداها حتى الآن قاد العديد من العلماء إلى ابتكار أفكار خاصة حول كيفية وجود هذه النجوم التي تبدو مستحيلة الوجود.
اختبار نظريات
هناك قدر من الارتباك بسبب حقيقة أن حدّ تشاندراسيخار يأتي مع بعض المحاذير. ولإجراء الحسابات في ثلاثينات القرن العشرين، فقد اضطر تشاندراسيخار إلى تبسيط الموقف. فالأقزام البيضاء المثالية التي أخذها بعين الاعتبار لم تكن تدور وليس لها مجال مغناطيسي. فمن الناحية العملية، هذا غير واقعي لأننا نعلم أن النجوم مثل الشمس تدور وذات مجال مغناطيسي كثيف. بل تتضخم هذه الخصائص عندما يتقلص النجم إلى قزم أبيض في نهاية حياته.
يكون القزم الأبيض في توازن دقيق بين الجاذبية التي تحاول سحق النجم والمقاومة الطبيعية التي تتمتع بها الجسيمات المكونة له من الانضغاط معاً بإحكام شديد. لتجاوز حدّ تشاندراسيخار بنجاح، سنحتاج على الأرجح إلى عامل إضافي واحد على الأقل يساعد على مكافحة الجاذبية. ويعتقد شينيتشيرو يوشيدا Shin’ichirou Yoshida من جامعة طوكيو University of Tokyo أن الدوران السريع كافٍ للقيام بالمهمة. وفقاً لنمذجاته الحاسوبية، يمكن للدوران أن يضاعف الكتلة التي قد يحققها القزم الأبيض قبل أن ينفجر على شكل سوبرنوفا من النوع la. ويعتقد إدسون أوتونيل دا سيلفا Edson Otoniel da Silva، من المعهد التكنولوجي للطيران في البرازيل Instituto Tecnológico de Aeronáutica، أنها مغناطيسية. في الواقع، تُظهر حساباته أن القزم الأبيض الممغنط للغاية يمكن أن يصل إلى 2.14 كتلة شمسية.
حتى هذه الحدود قد تبدو متواضعة إلى حد ما إذا كنت تأخذ برأي سايان بال Sayan Pal، الباحث في مركز إس إن بوسي الوطني للعلوم الأساسية SN Bose National Centre for Basic Sciences في الهند. وتجلت عبقرية تشاندراسيخار الأساسية في تطبيق مجال جديد نسبياً لفيزياء الكم على الأقزام البيضاء. ويعتقد بال أن التأثير الكمّيّ الجديد يجب أن يؤخذ بالاعتبار، فهو تأثير من شأنه أن يزيد المقاومة الطبيعية للقزم الأبيض للانكماش بفعل الجاذبية Gravitational contraction. بمجرد القيام بذلك، كما يقول، يمكن أن ينتهي بك الأمر بأقزام بيضاء أكبر بثلاث مرات من كتلة حدّ تشاندراسيخار.
ولعل الحل الأكثر تطرفاً هو ما تقترحه فلافيا روشا Flavia Rocha، أيضاً من المعهد التقني للطيران. إنها تعتقد أننا بحاجة إلى قلب أفكارنا حول الجاذبية رأساً على عقب لشرح هذه النجوم المستحيلة. ويتفق معظم علماء الكوزمولوجيا على أن قوانين الفيزياء هي نفسها في معظم أنحاء الكون – قوة الجاذبية، على سبيل المثال، تعمل بشكل متماثل عبر الكون. ومع ذلك، فإننا نرى النجوم على حوافّ المجرات تتحرك بسرعة كبيرة. وبمثل هذه السرعة يجب أن تهرب من جاذبية المجرة وتنطلق إلى الفضاء، لكنها لا تفعل ذلك. فالتفسير المعتاد هو أن هناك الكثير من المواد الخفية في المجرات، مما يوفر “عضلات” جاذبية إضافية – المادة المعتمة Dark matter. ومع ذلك، يجادل آخرون لصالح الجاذبية المُعدَّلة Modified gravity – في أنه ببعض الظروف تعمل الجاذبية بشكل مختلف عما اعتدنا عليه. عندما طبقت روشا هذه الفكرة على الأقزام البيضاء، وجدت أنها تجعل الأقزام البيضاء أكبر، مما يزيد من ثباتها ضد الانهيار واشتعال سوبرنوفا. وتتوافق نتائجها مع وصول الأقزام البيضاء إلى ضعف حدّ تشاندراسيخار.
حل اللغز
إذا أردنا حل هذا اللغز إلى الأبد، فنحن بحاجة إلى إيجاد قزم سوبر تشاندراسيخار أبيض. ويعتقد سوراجيت كاليتا أن هناك تجارب على الطريق ستساعدنا على تحقيق ذلك، بما في ذلك هوائي الفضاء لمقياس التداخل الليزري Laser Interferometer Space Antenna (اختصارا: الهوائي ليزا LISA) المقرر إطلاقه في 2030، وهو عبارة عن مرصد فضائي لموجات الجاذبية. وموجات الجاذبية هي تموجات تنشأ أثناء تحرك الأجسام عبر الفضاء، تماماً كما تولد الأجسام موجات أثناء تحركها عبر الماء. إن مراصد موجات الجاذبية الموجودة لدينا ليست حساسة بما يكفي لالتقاط التموجات الصغيرة نسبياً والصادرة من الأقزام البيضاء، لكن كاليتا يقول إن ليزا يجب أن تتمكن من رصدها. ويقول: “من خلال قوة الموجات وتواترها، يمكننا قياس حجم القزم الأبيض”. في المقابل، يمكن استخدام ذلك لنمذجة دوران القزم الأبيض ومجاله المغناطيسي لمعرفة ما إذا كانا يتوافقان مع التوقعات المختلفة التي عرضناها فيما سبق.
ننتظر تحقيق ذلك بفارغ الصبر، فلا شيء أقل من فهمنا للكون هو ما يعتمد عليه.