أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاءفلك وعلم الكونيات

مفتاح فهم الطاقة المعتمة

يشرح لنا كولين ستيوارت كيف يمكن للأبحاث الجديدة أن تساعدنا على فهم القوة التي نعتقد أنها تسرّع توسع الكون، فالأمر كله يتعلق بالرقم 0.007297351

كولين ستيوارت Colin Stuart: (@skyponderer) هو مؤلف ومحاضر في علم الفلك. ويمكن الحصول على كتبه الموقعة بتوقيعه من: colinstuart.net/books.

هناك عدد غالباً ما يجري تجاهله، ويعتقد علماء الكونيات أنه يحمل مفتاح حل بعض أعمق ألغاز الكون. ووفقاً لـ ريتشارد فاينمان Richard Feynman: “يعلّق جميع علماء الفيزياء النظرية الجيدين هذا العدد على حائطهم، ويقلقون بشأنه”. ويسمى هذا العدد بـ‘ثابت البنية الدقيقة’ Fine Structure Constant، ويساوي 1/137 تقريباً، وهو يصف طريقة تفاعل الضوء مع الذرات. ولكن بحثاً جديداً يشير إلى وجود استثناء: فربما لا يظل هذا الرقم ثابتاً على الإطلاق؛ وهذا بدوره قد يساعدنا على تفسير سبب تسارع توسع الكون، والتنبؤ بمصيره النهائي.
عام 1998 هو العام الذي بدأ فيه فهمنا للكون ينقلب رأساً على عقب. نعلَم أن الكون يتوسع منذ نشأته في الانفجار الكبير Big Bang قبل نحو 14 بليون سنة. وافترض معظم علماء الفلك أن هذا التوسع كان يتباطأ مع تلاشي زخم طاقة الحدث الأولي؛ لكن قياسات جديدة استخدمت نجوماً متفجرة بعيدة تسمى السوبرنوفا (المستعرات العظمى) Supernovae أظهرت العكس. فعلى مدى بلايين السنين القليلة الماضية، يبدو أن الكون يتضخم بوتيرة متسارعة.

اندفاعة الطاقة المعتمة
عادة ما تعزى هذه الانعطافة غير المتوقعة إلى شيء غامض يسمى الطاقة المعتمة Dark energy التي يتألف منها نحو %68 من جميع مادة الكون. إنها تعمل بصورة جاذبية مضادة Anti-gravity، تدفع بمادة الكون إلى التباعد عن بعضها البعض؛ لكن لماذا بدأ تأثيرها يتزايد بعد فترة طويلة من الانفجار الكبير؟ تقليدياً، كان ينظر إلى الطاقة المعتمة على أنها ثابتة Constant. فعندما تدفع هذه الطاقة المجرات بعيداً عن بعضها تضعف قوة جاذبيتها؛ وهو ما يعني أن المجرات ستجد صعوبة في مقاومة تأثير الطاقة المظلمة، ويتسارع توسع الكون، لتضعف قوة جاذبية المجرات أكثر فأكثر مولّدة حلقة مفرغة. لذا، فالأمر لا يتعلق بأن الطاقة المعتمة ذاتها تزداد قوة، بل أن قدرتها على تسريع توسع الفضاء تزداد تدريجياً.
وهناك خيار آخر أقل شيوعاً: ربما تغيرت قوة الطاقة المعتمة ذاتها على مدار عمر الكون لتصير الآن فقط أكثر قوة. وإذا كان هذا صحيحاً، فسنضطر إلى استبعاد معظم النظريات الرائدة حالياً عن ماهية الطاقة المعتمة (انظر: الإطار، بعد التنضيد). إنه ذلك العدد الخاص، ثابت البنية الدقيقة، والذي يقدم طريقة ممكنة لاختبار هذه الفكرة المثيرة للجدل. ولفهم أهمية ثابت البنية الدقيقة الذي يعرف أيضاً بالحرف اليوناني آلفا (α)، فستحتاج إلى الغوص داخل الذرة Atom. وتحافظ قوة تعرف بالقوة الكهرومغناطيسية Electromagnetism، وهي القوة نفسها التي تجذب القطب الشمالي لمغناطيس نحو القطب الجنوبي لمغناطيس آخر، على حركة دوران الجسيمات التي تسمى إلكترونات Electrons حول نواة مركزية. ويحدد ثابت البنية الدقيقة شدة القوة الكهرومغناطيسية، والتي بدورها تحدد أحجام مدارات Orbits الإلكترونات. وإذا كانت أقوى، على سبيل المثال، فستكون مدارات الإلكترونات أكثر ازدحاماً وتقارباً حول النواة.
ومع ذلك، فإذا كانت شدة قوة الطاقة المعتمة قد تغيرت على مدار تاريخ الكون، فقد يكون لها تأثير كبير في ثابت البنية الدقيقة أيضاً. ويقول كارلوس مارتينز Carlos Martins، من جامعة بورتو University of Porto: “إذا لم تكن الطاقة المعتمة ثابتاً، فيجب أن تكون نوعاً ما من مجال Field”. ففي الفيزياء، فإن المجال هو منطقة تؤثر فيها قوة ما، على سبيل المثال مجال جاذبية الأرض. وبدوره، سيؤثر مجال الطاقة المعتمة في المجال الكهرومغناطيسي داخل الذرات. ويقول مارتينز: “المجالان مترابطان جداً لدرجة أن أي تغيير في أحدهما سيؤدي إلى تغيير في الآخر. وفي أي نموذج تتنوع فيه الطاقة المعتمة، فأنت تتوقع بلا شك بعض الاختلاف في ثابت البنية الدقيقة”. وبعبارة أخرى، اكتشف أن آلفا يختلف وستكون واثقاً من أن الطاقة المعتمة تختلف أيضاً. ويقول روبن أرخونا Rubén Arjona من جامعة مدريد المستقلة Autonomous University of Madrid: “النماذج التقليدية للطاقة المعتمة لا تنتج اختلافات في ثابت البنية الدقيقة”.

رقم مهم
يمكن قياس قيمة ألفا بشكل دقيق ورائع في مختبر هنا على الأرض، مما يجعله أحد أدق الأرقام في الفيزياء. إنه يساوي 0.007297351، مع هامش زيادة أو نقصان بقدر يصل إلى 6 أعداد للرقم الأخير. وبحسب بحث نُشر في شهر فبراير، فإنه يمكن قياسه حتى من خلال النظر في الإشارات التي تتنقل بين أنظمة الملاحة عبر أقمارنا الاصطناعية. ولمعرفة ما إذا كان ألفا يحافظ على هذه القيمة عبر اتساع الفضاء، فأنت بحاجة إلى طريقة ما لقياسه بعيداً عبر الكون، وهنا يأتي دور الكويزارات Quasars. اسم هذه الأجرام هو اختصار لعبارة ’جسم شبه نجمي› Quasi-stellar object، وهي تبدو مثل النجوم، لكنها في الحقيقة هي النوى اللامعة لبعض أُولى المجرات تشكلاً. ويقول جون ويب John Webb، من جامعة نيو ساوث ويلز University of New South Wales في سيدني بأستراليا: “يمكننا استخدام هذه الأجرام للوصول إلى 800 مليون سنة بعد الانفجار الكبير”.
الحل هو البحث عن ضوء الكويزار القديم الذي عَبَرَ سحابة غاز وغبار قريبة قبل انطلاقه في رحلة طويلة إلى الأرض. ويستخدم علماء الفلك جهازاً يسمى مقياس الطيف Spectrometer لتجزئة الضوء إلى طيف الألوان المكونة له، مثل قطرة مطر تُجزّئ ضوء الشمس لتنتج قوس قزح. ويعرف العلماء أن الطيف الملون ممتلئ بالأحزمة السوداء الداكنة المعروفة بخطوط الامتصاص Absorption lines. وهذه مجرد ألوان مفقودة لأن الإلكترونات الموجودة في سحابة الغاز امتصت ذلك الجزء من ضوء الكويزار، واستخدمته للقفز إلى مدار أعلى حول نواة الذرة. وإذا كان ثابت البنية الدقيقة مختلفاً في ذلك الوقت، فكذلك سيكون حجم تلك القفزة أيضاً. وهذا يعني أن جزءاً مختلفاً من الضوء سيكون ناقصاً، وسيظهر خط الامتصاص الأسود عند جزء مختلف قليلاً من الطيف.
هذا هو بالضبط نوع التجربة التي أجراها علماء الفلك في السنوات القليلة الماضية، وكانت النتائج مذهلة. فالنتائج التي توصلوا إليها تشير إلى أن ثابت البنية الدقيقة كان مختلفاً في الماضي. بعد ذلك، في شهر أبريل 2020، نشر جون ويب وزملاؤه أربعة قياسات لكويزار واحد هو الكويزار J1120+0641 وهو ما دفع بقياسات ألفا إلى ما قبل 13 بليون سنة. ويقول ويب: “يعادل هذا زيادة تعادل ضعف مدى أي قياس سابق”. وعند دمجها في بيانات الكويزار الحالية، تدعم هذه النتائج الجديدة فكرة أن ألفا يختلف عن قيمته الأرضية بمقدار جزأين في 100,000، ويقول: “إنها نتيجة أولية جداً، ولكنها أيضاً موحية جداً”.
لوضع هذا العمل على أرضية أكثر ثباتاً، نحتاج إلى إجراء رصد المزيد من الكويزارات، وهذا بالفعل ما هو في قيد الإعداد للأشهر والسنوات المقبلة. ويقول ويب: “هناك 30 كويزاراً معروفاً يمكننا دراستها في الوقت الحالي”. وستكون الأداة المقبلة، التلسكوب الأوروبي الفائق European Extremely Large Telescope (اختصاراً: التلسكوب E-ELT)، مناسبة تماماً لدراستها بهذه الطريقة عندما يُرى ضوؤه الأول في عام 2025. وسيوضع التلسكوب في صحراء أتاكاما في تشيلي، على بعد 20 كم من التلسكوب الكبير جداً VLT الحالي، الذي استخدمه ويب لإجراء قياساته الثورية المحتملة للكويزار. وكما يقول ويب: “هذا الموضوع هو أحد دوافع بناء التلسكوب E-ELT”. ويوافق كارلوس مارتينز على أن ذلك سيغير قواعد اللعبة في مجال البحث هذا، ويقول: “سيكون له تأثير هائل”.
وفي هذه الأثناء كان روبن أرخونا Rubén Arjonaيقيس قيمة ألفا عندما كان عمر الكون بضعة بلايين سنة، وذلك بتحليل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي Cosmic microwave background radiation (اختصارا: الإشعاع CMB)، الذي هو الأثر الإشعاعي المتبقي من الانفجار الكبير. وتبدو خريطة هذا الإشعاع (انظر: أعلاه) ممتلئة بالبقع، بقع صغيرة أكثر سخونة أو أكثر برودة بقدر قليل من درجة حرارة الخلفية. وسيكون للاختلافات في قيمة ألفا تأثير في هذه البقع. عادةً ما يتعين عليك أن تبني تحليلك للإشعاع CMB على نظرية معينة عن الطاقة المعتمة لحساب مدى توسع الكون. ومع ذلك، استخدم أرخونا تقنية تسمى تعلم الآلة Machine learning، تبحث فيها خوارزميات الحاسوب عن أنماط في البيانات. ويقول أرخونا: “إحدى مزايا استخدام تعلم الآلة هي أنك لست مضطراً إلى افتراض أي نموذج للطاقة المعتمة. إنه يضمن أنك لست منحازاً إلى إحداها”. لم يجد عمله الذي نُشر في فبراير، أي اختلاف في قيمة ألفا، وهو يتسق مع بقاء الطاقة المعتمة ثابتة.

النظر في قلب مجرتنا
كما درس علماء فلك آخرون تباين قيمة ألفا على مسافة أقرب في مجرتنا. وقاد أورليان هيز Aurélien Hees، من مرصد باريس Paris Observatory، فريقاً علمياً لرصد ودراسة النجوم التي تدور حول منطقة الرامي أ* *Sagittarius A، وهو ذلك الثقب الأسود الهائل في قلب مجرة درب التبانة. وقد نشر الفريق نتائج عمله في شهر فبراير. ويقول هيز: “إنها أول مرة يجري البحث فيها عن اختلافات لقيمة ألفا حول مثل هذا الجسم الكثيف”. وعلى عكس أرصاد الكويزار، لم يجد هيز دليلاً يشير إلى اختلاف قيمة ألفا هناك عن قيمته الأرضية. ويقول: “إذا كان هناك أي اختلاف، فيجب أن يكون أصغر من جزء واحد في الـ 100,000”. ولو كان غير ذلك؛ لرآه.

أين سينتهي كل هذا؟
إذن، ماذا يعني كل هذا بالنسبة إلى مصير الكون؟ ربما، وهي ربما كبيرة، يمنعنا هذا من التمزق أشلاء. وإذا كانت الطاقة المعتمة ثابتة، كما تقترح النماذج التقليدية، فإن تأثيرا سيتزايد مع توسع الكون، دون أي ضابط لها. وسيؤدي هذا إلى ما يسميه علماء الفلك “التمزق الكبير” Big Rip. وفي نهاية المطاف، سيتمدد حتى الفراغ الموجود بين الذرات وفي داخلها إلى درجة تمزق بنيتها، وسيصير الكون بحراً فارغاً من الشظايا. ولن تكون هناك نجوم، أو كواكب، أو أشكال حياة، أو حتى ذرات. وكل هذا قد يحدث في مدة 22 بليون سنة.
ومع ذلك، فإذا تباينت قيم الطاقة المعتمة وثابت ألفا على مدار تاريخ الكون، كما تشير هذه النتائج، فهناك بصيص أمل. ويقول مارتينز: “هذا يجعل التنبؤ بالمستقبل أكثر صعوبة. يمكن أن يتوقف تسارع توسع الكون أو يزداد”. وفقط من خلال بناء تلسكوبات عملاقة مثل التلسكوب E-ELT، سنعرف حتما ما إذا كان سيجري إيقاف حكم الإعدام، أو إذا كانت أضواء نجوم الكون ستنطفئ عاجلاً لا آجلاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى