أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقالات الإشتراك

التناظر الفائق

تناولت الأجزاء السابقة من هذه السلسلة حقائق ثابتة وجسيمات وقوى فيزيائية معروفة. ومع ذلك سنلقي في هذا الشهر نظرة على فكرة نظرية أكثر تجريداً: التناظر الفائق Supersymmetry (تعرف باسم SUSY). إنها نظرية لم تثبُت بعد، ويمكن لها أن تحل عدداً من المشكلات المزعجة في فيزياء الجسيمات، مثل سبب الضعف الكبير لقوة الجاذبية مقارنةً بالقوى الأخرى في الطبيعة، أو ما طبيعة المادة المعتمة.

غيرَ أن هذا الأمر له ثمن: فإذا كانت نظرية التناظر الفائق صحيحة، فسيتعيَّن على الطبيعة أن تحتوي على عدد كبير من الجسيمات الإضافية الأخرى، إلى جانب كثير من الجسيمات التي نعرفها مسبقاً.

في وقتنا الحالي يعرف علماء الفيزياء أسرتين من الجسيمات الأولية: الفرميونات Fermions، والبوزونات Bosons. الفرميونات Fermions هي جسيمات من المادة، مثل الكواركات Quarks والإلكترونات Electrons والنيوترينوات Neutrinos، التي تكوّن العالم المادي. وعلى النقيض من ذلك، فإن البوزونات هي جسيمات حاملة للقوى Bosons: الفوتونات (جسيمات الضوء) تحمل القوة الكهرومغناطيسية؛ فيما تحمل البوزونات المسماة W وZ القوة النووية الضعيفة المسؤولة عن تحلُّل الذرات المشعة، وتحمل جسيمات الغلوونات Gluons القوة النووية القوية التي تربط الكواركات بعضَها ببعض. أما القوة الأساسية الرابعة للطبيعة، وهي الجاذبية، فيجب أن يحملها جسيم يُعرف باسم الغرافيتون Graviton، والذي لم يكتشف إلى الآن بسبب كتلته الصغيرة جداً جداً.

تتميز هاتان الأسرتان من الجسيمات الأولية، الفرميونات والبوزونات، بخاصية تُعرَف باسم التدويم المغزلي Spin، والتي تشبه إلى حد ما خاصية الدوران المحوري Rotation. في أوائل سبعينات القرن العشرين تساءلت أربع فرق مستقلة من الباحثين عن السبب الذي يجعل الطبيعة تحتوي على نوعين مختلفين من الجسيمات. هل يمكن فعلاً أن تكون الفرميونات والبوزونات وجهين لعملة واحدة، كما افترضوا؟ وبعبارة أخرى، هل ترتبطان كلتاهما بالأخرى من خلال نوع من تناظر كامن؟

الجدول الدوري للعناصر، الذي وضعه مندلييف في العام 1869

جمعٌ للتوائم

إذا كان الأمر كذلك، فيجب أن يكون لكل فرميون شريك بوزوني (أضخم بكثير)، والعكس صحيح. وسرعان ما ابتكرت أسماء مضحكة لهذه الجسيمات الشريكة فائقة التناظر. فالسليكترونات Selectrons، والسكواركات Squarks والسنيوترينوات Sneutrinos هي الشركاء البوزونيون المفترَضون للفرميونات؛ أما جسيمات الفوتينو Photinos والوينو Winos، والزينو Zinos، والغرافيتينو Gravitinos، فستكون هي الشريك الفرميوني للبوزونات. 

وبعد أن صار النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات مقبولاً على نطاق واسع في النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين، ازدادت شعبية نظرية التناظر الفائق. ومع ذلك، لم يستطع النموذج القياسي تفسير كثير من مظاهر كوننا، ومن ثم لم يكن في وسع هذا النموذج أن يكون هو الكلمة الأخيرة. فعلى سبيل المثال لا وجود لمادة معتمة Dark matter في النموذج القياسي، ولكن أحد جسيمات التناظر الفائق SUSY ربما يشكل هذه المادة الغامضة. فهل يمكن أن يكون التناظر الفائق هو الامتداد الصحيح المطلوب للنموذج القياسي، لكي يمكن حل هذه المسائل، وربما يشير إلى الطريق نحو توحيد عظيم للقوى المختلفة في الطبيعة النظرية الشاملة لكل شيء؟

في بادئ الأمر، ربما تبدو فكرة التناظر الفائق مجرد فكرة ارتجالية. ولكن برؤية أخرى، فقد ساعدت افتراضات وأفكار التناظر العلماء في كثير من الأحيان على فهم العالم. فعندما كان الكيميائي الروسي دميتري مندلييف Dmitri Mendeleev يضع الجدول الدوري للعناصر في العام 1869، أدرك وجود أنماط معينة في خصائص العناصر المعروفة، وتنبأ بوجود عدة عناصر كيميائية أخرى غير معروفة، وقد أمكن اكتشافُها الآن. وعلى نحو مماثل حدث التنبؤ بوجود الكواركات في العام 1964، قبل اكتشافها فعلاً بأربع سنوات، وذلك بناءً على أفكار التناظر.

إذا كانت نظرية التناظر الفائق صحيحة، فسوف نشهد زيادة أخرى في عدد الجسيمات الأولية. أولاً، لدينا الأُسر الإضافية مع ”أبناء عمومتها“ ذوي الكتل الكبيرة، من الكوارك العلوي والكوارك السفلي والإلكترون والنيوترينو، التي وصفناها في الجزء الأول من هذه السلسلة. ثم لدينا ضديد المادة Antimatter. ومع نظرية التناظر الفائق، سيتضاعف مخزون الجسيمات مرة أخرى.

ولكن ما الوضع القائم حالياً؟ حسناً، إن كتلة جسيم هيغز Higgs particle، الذي اكتُشِف في العام 2012، تتوافق تماماً مع تنبؤات نظرية التناظر الفائق. ولكن جسيمات السفرميون Sfermions والبوزينو Bosinos الضخمة التي تنبأت بها نظرية التناظر الفائق لم تكتشف إلى الآن. نعم، قد يكون صحيحاً أن الجيل الحالي من مصادمات الجسيمات ليس قوياً بما يكفي لإنتاج مثل هذه الجسيمات الثقيلة. ولكن علماء الفيزياء بدؤوا تدريجياً يفقدون ثقتهم بالنظرية.

ستكون لهذا الأمر نتائج كونية شائكة: فإذا كانت نظرية التناظر الفائق خاطئة، فسيجب على العلماء أن يبحثوا في مكان آخر عن حل لواحدة من أكبر مشكلات علم الفلك: الطبيعة الحقيقية للمادة المعتمة. 


ويستمر البحث عن تفسير لكل القوى والجسيمات المعروفة الآن ضِمْن بنية واحدة كبرى، مثل الزمكان E ذي الأبعاد العشرة في نظرية الأوتار الفائقة

النظرية الموحدة الكبرى: شعورٌ غريزي
النظرية الكبرى الشاملة لكل شيء هي الكأس المقدسة لفيزياء الجسيمات.

لا أحد يعلم لماذا توجد أربعُ قوى أساسية مختلفة في الطبيعة: قوة الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية، والقوتان النووية الضعيفة والنووية القوية. ولكن من جهة أخرى، قد تكون هناك قوة واحدة فقط. ففي اللحظات الأولى بعد ولادة الكون، ”انقسمت“ هذه القوة الوحيدة إلى القوى الأربع التي نعرفها الآن. والواقع أن شلدون غلاشو Sheldon Glashow وعبدالسلام Abdus Salam وستيفن واينبرغ Steven Weinberg نجحوا في صياغة نظرية القوة الكهروضعيفة Electroweak theory في سبعينات القرن العشرين، وهي وصف موحد للقوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة. ويأمُل الفيزيائيون أن يتمكنوا مستقبلاً من ضم القوة النووية القوية أيضاً، فيما يُعرَف باسم النظرية الموحدة الكبرى Grand Unified Theory، أو (اختصاراً: النظرية GUT).

يتلخص الحلم النهائي في نظرية واحدة شاملة لكل شيء، تصف وتفسر كل الجسيمات وقوى الطبيعة، بما في ذلك قوة الجاذبية. وطَوال سنوات، كانت نظرية الأوتار الفائقة ذات الأبعاد العشرة (التي توصف فيها الجسيمات الأولية بأنها أنماط اهتزاز مختلفة لأوتار مجهرية) نظريةً مشهورة مرشحة لتكون نظريةَ كل شيء. وتتضمن هذه النظرية التناظر الفائق، ولكنها فقدت شعبيتها في السنوات الماضية جزئياً بسبب أن إثباتها (أو دحضها) يكاد يكون مستحيلاً تجريبياً.

غوفرت شيلينغ Govert Schilling: صدر أحدث كتاب له بعنوان الفيل في الكون The Elephant in the Universe عن دار جامعة هارفارد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى