اصطدام على المشتري الذكرى 30 للمذنَّب شوميكر-ليفي 9
في صيف العام 1994 شاهدت الأرض سلسلةَ صخور فضائية عملاقة وهي تندفع لتضرب كوكب المشتري. وهنا تتحدث كاترين راينر عن تلك اللحظة الحرجة، وما تعنيه بالنسبة إلى فكرة الدفاع عن كوكبنا ضد اصطدامات مستقبلية مشابهة
يقام هذا الحدث العالمي سنوياً في يوم 30 يونيو، لرفع مستوى الوعي بشأن الكويكبات والتهديد الذي تمثله للأرض. أسسه في العام 2014 كلٌّ من د. برايان ماي Dr Brian May، عالم الفيزياء الفلكية وعازف موسيقى الروك في فرقة كوين Queen، ورائد فضاء مهمة أبولو 9 رستي شفايكارت Rusty Schweickart، والمخرج غريغ ريخترز Grig Richters، ودانيكا ريمي Danica Remy رئيسة مؤسسة B612. يمكنك معرفة مزيد على الموقع: www.asteroidday.org.
في شهر يوليو قبلَ 30 عاماً، في العام 1994، اصطدم المذنّب شوميكر-ليفي 9 بكوكب المشتري العملاق الغازي. أطلق هذا الحدث، وهو اصطدام مذنّب بكوكب، إثارةً كبيرة عبْرَ أنحاء العالم، لأنه كان أول تصادُم متوقَّع بين جِرمين في المجموعة الشمسية، وأولَ اصطدام يُرصد عبر التلسكوبات الأرضية والفضائية، ويوفر لعلماء الفلك فرصة لدراسة تأثير الاصطدامات على كوكب لأول مرة، والاستعداد لأحداث اصطدام محتملة على الأرض في المستقبل.
اكتُشف المذنَّب قبل تاريخ الاصطدام بأكثر من عام، في مساء يوم ربيعي غائم جزئياً في شهر مارس 1993، في مرصد بالومار Palomar Observatory في جنوب كاليفورنيا. اجتمع صائدو المذنَّبات والكويكبات ديفيد ليفي David H Levy وكارولين Carolyn وجين شوميكر Gene Shoemaker في المرصد لمتابعة بحثهم عن الأجرام الصغيرة التي يمكن أن تُمثل تهديداً للأرض. وفي وقت مناسب صفت فيه السماء من يوم 24 مارس، وجَّه ليفي تلسكوب شميدت، 18 بوصة، مزوداً بفيلم تصوير كوداك، إلى كوكب المشتري، وبدأ في التقاط الصور عدة دقائق. ولم يكن لدى ثلاثتهم فكرة عما كانوا على وشك اكتشافه.
في اليوم التالي، عندما كانت كارولين شوميكر تدرس الصور، شاهدت فيها ما بدا للوهلة الأولى أنه مجرَّة. ولكن عند الفحص الدقيق، تبين أن ”المجرَّة“ كانت خطاً ضبابياً من الضوء له عدة ذيول: لقد التقطوا صورة لقطار من المذنَّبات!
لم يكن الأمر هكذا دائماً. أظهر البحث في بيانات تاريخية أن المذنَّب كان سابقاً بقطر 1.5 كم تقريباً، وكان يدور حول الشمس. لكن جاذبية كوكب المشتري أمسكت به في وقت سابق، ربما منذ العام 1929، وفي العام 1992 اقترب المذنّب من الكوكب مسافة كافيةً لقوة جذبه كي تمزقه أشلاء. وفي نهاية الأمر، مع تباعُد قطع المذنَّب، صار ما كان مذنّباً من قطعة واحدة في السابق قطاراً مكوناً من 21 قطعة مفردة، يتراوح حجمها بين عدة مئات من الأمتار وكيلومترين. أُطلِق على المذنّب اسم شوميكر-ليفي 9، وأُطلِق على كل قطعة من قطعه حرفٌ يميزها. وكان هذا هو تاسع مذنّب دوري يكتشفه ليفي والثنائي شوميكر.
وبعد ربط أجزاء التاريخ المشؤوم للمذنّب، صدر إعلان مثير في شهر مايو، 1993، يقول: في الفترة ما بين 16 و22 يوليو من العام 1994، كانت شظايا المذنّب تتجه لتضرب المشتري. وعلى مدى الأشهر التالية استخدم علماء الفلك في معظم أنحاء العالم تلسكوباتِهم لمراقبة ودراسة المذنّب قبل اصطداماته الوشيكة. ومن المؤكد أنه في يوم 16 يوليو، اصطدمت القطعة A بالغلاف الجوي للمشتري بسرعة هائلة بلغت 216 ألف كم في الساعة. أطلق هذا الاصطدام عموداً ضخماً من المواد إلى ارتفاع 2,896 كم فوق سحب المشتري، وأنتج بقعة معتمة وكبيرة بما يكفي لتراها التلسكوبات الأرضية والفضائية، بما في ذلك التلسكوبان هابل وROSAT.
في الأيام القليلة التالية، واصلت الشظايا ضرب المشتري، لتحدث تغييرات واضحة على الكوكب. وبفضل مدة الدوران المحوري السريع للمشتري، حصل الراصدون الأرضيون على مقعد مراقبة متقدم لرؤية التغييرات، وعندما اصطدمت أكبر شظايا المذنّب، القطعة G، بالكوكب في يوم 18 يوليو، أمكن رؤية بقعة مظلمة أكبر حجماً من الأرض.
ولأن كل قطعة من المذنّب ضربت الجانب ”الليلي“ من المشتري، الذي لم يكن ممكناً رصدُه من الأرض، فلم يُرَ أيٌّ من الاصطدامات ”مباشرة“ من كوكبنا. لكن المركبة غاليليو الفضائية Galileo spacecraft، التي كانت في طريقها إلى المشتري في ذلك الوقت، استطاعت تصوير الاصطدامات، والتقطت صورتها الأخيرة في يوم 22 يوليو، عندما اصطدمت القطعة W بالكوكب.
كانت هذه الدراما المثيرة والمطولة مثيرةً للرصد، لكنها كانت أيضاً دعوة نبَّهت العلماء. فقد أثار ضعف كوكب كبير مثل المشتري أمام هذه الاصطدامات تساؤلات عن مدى ضعف كوكبنا وسلامته.
نجا كوكب الأرض من أكبر الضربات المؤكدة في المجموعة الشمسية
المكنسة الكونية
لم يكن شوميكر-ليفي 9 أول جِرم يضرب الكوكب. في الواقع يتعرض المشتري لاصطدامات أكثر مما يتعرض له أي كوكب آخر، وغالباً ما يشار إليه باسم ”مكنسة كونية“ Cosmic vacuum-cleaner، تحوم فوق الأجرام العابرة التي يمكن أن تشكل تهديداً لعناصر الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية. يبلغ قطر الكوكب العملاق 140 ألف كم تقريباً، وهو أكبر بـ 11 مرة من قطر الأرض، وهو أكبر كواكب المجموعة الشمسية، ويؤدي دوراً رئيسياً في حماية الأرض.
يؤدي قربُه من الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية، إضافة إلى كتلته ومجال جاذبيته الكبير، إلى إحداث تأثير كبير في توزُّع الأجرام الصغيرة التي تدور حول الشمس، والتي كثيراً ما يلتقطها المشتري. يمكن لبعض هذه المذنَّبات أن تفلت أحياناً من قبضة هذا العملاق الغازي، وتستعيد مدارها حول الشمس، في حين يصطدم بعضها الآخر به، أو يصير قمراً له في بعض الحالات النادرة.
ومع ذلك تتساءل أبحاث حديثة عن مدى الحماية التي يوفرها لنا كوكب المشتري. من المؤكد أن هذا الكوكب الضخم يحرف المذنَّبات والكويكبات بعيداً عن الأرض، ولكن هناك أدلة تشير إلى أنه قد يزيد من وتيرة مجيء الكويكبات والمذنَّبات قصيرة الدور التي تتجه نحونا.
لا يستطيع المشتري أن يُعيد توجيه جميع المذنَّبات والصخور نحوه وابتلاعها، وما أفلت منها فقد أثر حتماً في الأجرام الأخرى داخل المجموعة الشمسية. هناك أدلة على وقوع حوادث الاصطدام هذه في كل مكان حولنا، مع حدوث بعض أكبرها على مسافة قريبة ومقلقة منا.
ومع ذلك، فمن المهم أن نتذكر أن هذه الاصطدامات ليست كلها كبيرة الحجم. ووفقاً للوكالة ناسا، فإن 90 طناً من المواد الساقطة من الفضاء الخارجي، والتي تتراوح في حجمها من حبيبات صغيرة من الغبار الكوني إلى صخور، تقصف الأرض يومياً. وفي ليلة صافية قد ترى بعضَها يندفع عبر الغلاف الجوي للأرض بصورة حجارة نيزكية، أو شهب. وقد يسقط بعضها على سطح الأرض؛ وهي تُعَد تذكيراً مُهماً بمدى تعرُّض الأرض لاصطدامات أكبر محتملة من الأجرام القريبة منها، وهي الكويكبات أو المذنّبات التي تمر من مسافة 45 مليون كم من مدار الأرض.
ما احتمال اصطدام كويكب بالأرض؟
كلما كانت الصخرة الفضائية أكبر حجماً، كانت فرص الاصطدام أقل
إن احتمال اصطدام الأرض بكويكب أو مذنَّب كبير هو احتمال ضئيل، لكنه ليس صفراً. ولو اصطدم المذنّب شوميكر-ليفي 9 بالأرض بدلاً من المشتري، لانقرضت الحياة كما نعرفها، تماماً كما حدث مع الديناصورات قبل 66 مليون سنة. إن فرصة اصطدام مذنَّب أو كويكب من حجم مماثل بنا ضئيلة جداً، إذ يقدِّر العلماء حدوث ذلك بمعدل مرة واحدة كل 10 ملايين سنة.
ومن المحتمل – بمعدل مرة في السنة – أن يندفع كويكب بقطر 3 أمتار تقريباً نحو الأرض، ويتفتت في غلافها الجوي، من دون أن يمثل تهديداً حقيقياً لنا. الكويكبات التي يبلغ قطرها أكثر من 30-50 م هي كبيرة بما يكفي لتمر عبر غلافنا الجوي سليمة؛ ومع ذلك تشير التقديرات إلى أن فرصة حدوث ذلك هي مرة واحدة كل 100 عام. سيكون الضرر الناجم عن اصطدام بمثل هذا الحجم واسع النطاق، ويمكن أن يمحو مدينة كاملةً إذا ضرب منطقة مكتظة بالسكان.
ومنذ وقت قريب، في شهر نوفمبر 2020، مر كويكب يُدعى VT4 من مسافة 383 كم من سطح الأرض. بلغ قطر هذا الكويكب 10 أمتار، وقد اقترب من الأرض أكثر من أي كويكب آخر معروف، إلى مسافة هي ذاتها مسافة ارتفاع مدار محطة الفضاء الدولية ISS، ولم يكتشف الكويكب إلا بعد 15 ساعة من بلوغه أقرب نقطة. أما لقاءات الأرض القريبة الآتية، في الأعوام 2029 و2035 و2036، مع الكويكب أبوفيس Apophis، الذي يبلغ قطره 390 م، فهي تسلط الضوء على أهمية إبقاء أعيننا تراقب السماء، وأن نعد أنفسنا للاستجابة لأي اصطدامات وشيكة.
اصطدامات على الأرض في الماضي
وفي هذا الصدد، فإن إحدى أهم الفوهات الصدمية على الأرض هي فوهة تشيكسولوب Chicxulub، التي توجد في أسفل شبه جزيرة يوكاتان Yucatán في المكسيك، وقد تشكلت قبل نحو 66 مليون سنة. يبلغ قطر هذه الفوهة 200 كم، ونتجت عندما اخترق كويكب قطره 10 كم غلاف الأرض الجوي وتحطم على سطحها. تسبب ارتطام بهذا الحجم في حدوث انقراض جماعي Extinction event، أدى إلى محو ثلاثة أرباع الأنواع الحية Species على الأرض، بما في ذلك الديناصورات.
لكن تشيكسولوب ليست أكبر فوهة أرضية، إذ تحتفظ فوهة فريديفورت Vredefort – القريبة من جوهانسبرغ في جنوب إفريقيا – بهذا اللقب بقطرها الهائل الذي يبلغ 300 كم، وتشكلت قبل بليوني سنة.
هناك ما يُقدَّر بمليون فوهة على سطح القمر، بأقطار تزيد على 1 كم، كل منها مثال على أحداث الاصطدام الماضية. وبخلاف الأرض، لا يوجد على القمر غلاف جوي واقٍ، وهذا يجعله عرضة بشدة للمواد المندفعة من الفضاء نحو سطحه. ولذا نجد أن أكبر فوهة عليه، وهي حوض القطب الجنوبي-آيتكن South Pole–Aitken Basin، لها قطر يبلغ 2,500 كم، وعمق يتراوح بين 6.2 كم و8.2 كم. إنها ثانية أكبر فوهة في المجموعة الشمسية، ويُعتقَد أنها نتجت من اصطدام القمر بجرم قطره 200 كم، وسرعته قليلة.
لحسن حظ البشر أنهم لم يكونوا موجودين ليشهدوا أحداث الاصطدامات الهائلة تلك، ولكننا نستطيع حالياً رصدَ الاصطدامات عبْر أنحاء المجموعة الشمسية وتسجيلها أيضاً بفضل التلسكوبات الأرضية والفضائية القوية، والتقدم في تكنولوجيا الفضاء. في السنوات الأخيرة تمكن هواة الفلك من رصد عدة اصطدامات على كوكب المشتري. وقد سجل خوسيه لويس بيريرا José Luis Pereira من البرازيل وميضاً ساطعاً نتج من اصطدام جِرم بالكوكب في شهر سبتمبر 2021، وفي شهر أغسطس 2023 استطاع راصدٌ في الصين أن يرصد ويسجل اصطداماً آخر.
منذ أواخر التسعينات من القرن العشرين، اكتشفت المركبات الفضائية ومركبات الهبوط التي تزور المريخ مجموعة كاملة من الفوهات الصدمية الجديدة. دارت مركبة مارس غلوبال سيرفيير Mars Global Surveyor حول الكوكب الأحمر مدة 10 سنوات، وكانت أول مركبة فضائية ترسم خريطة لسطحه بدقة عالية تكفي لتحديد الاصطدامات الجديدة. واكتشفت المركبة أثَر أول اصطدام لها بين العامين 2000 و2001، واكتشفت المركبات المدارية ومركبات الهبوط المريخية أكثر من 1,200 أثر اصطدام منذ ذلك الحين.
منع الاصطدامات على الأرض
قد يبدو أن حدوث الاصطدامات الكبيرة عبر المجموعة الشمسية وتكرارها والأضرار الناجمة عنها هما أمر مثير للقلق، وأن وقوع اصطدام على الأرض في المستقبل هو أمر يجب عدم تجاهُلِه. إذن ما الذي يمكننا فعله الآن لمنع اصطدام الأجرام القريبة من الأرض بها؟
الأولوية الأولى هي معرفة حجم التهديد، فنحن نعرف الآن أكثر من 30 ألف جسم صخري في المجموعة الشمسية قريب من الأرض. غير أنه لا يُنظر إلى جميع الأجرام القريبة من الأرض على أنها تمثل خطورة عليها: فقط تلك التي يزيد قطرها على 140 م، وتمر من مسافة أقل من 7.5 مليون كم من الأرض في أثناء عبور مدارها هي التي تمثل تهديداً. وهذه الأجرام ذات الخطورة المحتملة (PHOs) هي أقل عدداً بكثير؛ ووفقاً للاتحاد الفلكي الدولي International Astronomical Union، بلغ عدد تلك الأجرام المعروفة منها 2,410 في العام 2023.
ومع ذلك يمكن حتى للأجرام الصغيرة القريبة من الأرض أن تُحدث ضرراً كبيراً. في صباح يوم 30 يونيو 1908، حدث انفجار هائل غير متوقع على ارتفاع 5 – 10 كم فوق سطح الأرض، مما أدى إلى تسوية مساحة بلغت 2,000 كم مربع تقريباً من الغابات بالقرب من نهر تونغوسكا في سيبيريا. قُدرت قوة الانفجار بـ 15 ميغا طن تقريباً، ونُسب إلى كويكب تراوح قطره بين 50 و100 م. لم تتشكل هناك فوهة صدمية، لأن الجسم الصادم انفجر في الغلاف الجوي للأرض، ولم تكن المنطقة مأهولة بالسكان، لحسن الحظ.
كاتبة في علوم الفلك، وزميلة الجمعية الفلكية الملكية