مصانع كونية
يقال إننا جميعاً مصنوعون من مادة نجمية؛ ولكن ترى كيف أمكن صنع تلك المادة النجمية ذاتها؟ هاري كليف يشرح هذا
إن كل شيء يمكننا رؤيته في هذا العالم إنما يتكون من ذرات Atoms؛ ولكن من أين جاءت ذراته هذه؟ إنه سؤال فتن فلاسفة الطبيعة والعلماء طَوال قرون، وما زلنا نتعلم مزيداً عنه إلى اليوم.
في مطلع القرن الثامن عشر، أعلن إسحاق نيوتن Isaac Newton أن الذرات ربما خلقها الرب مع بدء الزمن. وقد اعتقد أن الذرات غير قابلة للتفكيك، إذ ”ليست هناك قوة عادية قادرة على تجزئة ما جعله الرب واحداً في بَدء الخليقة“.
ومع ذلك، في العقود الأولى من القرن العشرين، وجد علماء الفيزياء أنهم يستطيعون تحطيم الذرات في المختبر باستخدام قوى هائلة، وإن كانت أرضية؛ وهذا ما أدى في النهاية إلى إدراك أن كل ذرة في الجدول الدوري تتكون من ثلاثة جسيمات تحت (دون) ذرية Subatomic particles فقط: إلكترونات Electrons، وبروتونات Protons، ونيوترونات Neutrons.
لقد أدى اكتشاف البنية التحتية للذرة إلى فتح إمكانية أن تكون الذرات ذاتها قد نشأت من هذه المكونات الأساسية. ولكن كيف؟
لكل ذرة البنيةُ ذاتها، بصورة نواة صغيرة موجبة الشحنة تدور حولها إلكترونات سالبة الشحنة. تتكون النواة ذاتها من بروتونات موجبة الشحنة ونيوترونات متعادلة كهربائياً، وهي ترتبط معاً بفعل القوة النووية الشديدة، والشيء الأهم، هو أن عدد البروتونات في النواة هو العامل الذي يحدد ما إذا كانت هذه الذرة هي، مثلاً، ذرة كربون، أو أكسجين، أو يورانيوم.
مواد خام
ذرة الهيدروجين هي أبسط ذرة، وتتكون من بروتون واحد يدور حوله إلكترون واحد، ومعظم الهيدروجين الذي نراه في الكون حالياً نتج بعد وقت قصير من حادثة الانفجار الكبير (العظيم) Big bang. إنه المرشح البارز ليكون هو المادة الخام التي تُصنع منها جميع العناصر الأثقل منه. ثم تأتي ذرة الهيليوم في الترتيب الثاني للبساطة، وتتكون نواتها من بروتونين ونيوترونين. ومع ذلك، فإن دمج ذرات الهيدروجين معاً لتكوين الهيليوم ليس أمراً سهلاً على الإطلاق.
البروتونات موجبة الشحنة، ولذا فهي تفرض قوة تنافر هائلة فيما بينها عندما تقترب بعضها من بعض. ولكي يندمج بروتونان، يجب أن يكون كل منهما على بُعد 10-15 م تقريباً من الآخر وهذه مسافة مماثلة لحجم البروتونات ذاتها وعند هذه النقطة تبدأ القوة النووية القوية الجاذبة في التغلب على تنافرها الكهربائي. ومع ذلك، للحصول على بروتونين قريبين إلى هذه المسافة، يجب أن يتحركا بسرعة لا تُصدَّق، سرعة تكفي لكسر الحاجز الكهربائي المرتفع بشدة الذي يفصل بينهما. ويعني هذا أنه لكي يخضع الهيدروجين لعملية الاندماج النووي، يجب أن يكون حاراً جداً جداً، بما لا يقل عن عدة ملايين من الدرجات.
أين يمكن العثور على بيئة بمثل هذه الظروف شديدة القسوة في الكون؟ إحدى الإجابات هي: في باطن النجوم.
خذْ نجمَنا الشمسي، على سبيل المثال. في مركزه تعمل الجاذبية الساحقة لكتلة الشمس على تسخين النواة إلى حرارة هائلة تبلغ 15 مليون درجة سيليزية، مما يسمح لنوى الهيدروجين (البروتونات) بالاندماج معاً لإنتاج الهيليوم. ومع ذلك، نظراً إلى أنك تحتاج إلى بروتونين ونيوترونين لتكوين الهيليوم، فإن هذا لا يحدث ضمن تفاعل واحد، بل وفق عملية تتقدم خطوة خطوة وتُعرف باسم ”سلسلة بروتون بروتون“ Proton–proton chain، حيث يحدث بناء نواة الهيليوم من خلال سلسلة من الاصطدامات النووية التي يصاحبها أحياناً تحوّل بروتون إلى نيوترون.
لا تُنتج تفاعلات الاندماج النووي هذه الهيليوم فحسب، بل تولّد أيضاً الطاقة التي تحافظ على سطوع نجمنا وتمنعه من الانهيار بتأثير جاذبيته.
ستستمر الشمس في دمج الهيدروجين وتحويله إلى الهيليوم بسعادة طوال خمسة بلايين سنة أخرى، ولكن في نهاية المطاف سوف ينفد الهيدروجين اللازم لتزويد فرنها النووي بالوقود. عند هذه النقطة، تصير الأمور مهمة بالنسبة إلى أي كائن ما زال يعيش في الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية.
ومن دون مصدر للطاقة لموازنة قوة الجاذبية، ستبدأ نواة الشمس في الانهيار وتزداد حرارتها. وفي نهاية الأمر، ستصير النواة حارة جداً إلى درجة أن عملية اندماج الهيدروجين سوف تبدأ مرة أخرى، ولكن هذه المرة في غلاف كروي يحيط بالنواة الغنية بالهيليوم. في السابق كانت هذه الطبقة باردة بدرجة لا يمكن معها حدوث عملية الاندماج.
ستؤدي إعادة إطلاق عملية الاندماج إلى إطلاق وهج جديد من الضوء في المناطق العليا من الشمس، مما يؤدي إلى تضخمها إلى عملاق أحمر هائل بقطر أكبر من قطرها الحالي بين 100 و200 ضعف، وهذا حجم كبير جداً إلى درجة أنها ستبتلع معه كواكبها الداخلية، بما في ذلك الأرض، على الأرجح.
القصة بدأت بانفجار
تحددت كميات الهيدروجين والهيليوم في الكون بعد حدوث الانفجار الكبير
مع أن النجوم عملت كمصانع كونية، أدت إلى شحن الكون تدريجياً بالعناصر الثقيلة على مدى الـ 13.7 بليون سنة الماضية، إلا أنها لا تستطيع تفسير نشوء العنصر الثاني شيوعاً بوفرته: الهيليوم.
تنتج النجوم الهيليوم فعلاً، ولكن ليس بقدر كافٍ لتفسير حقيقة أن الهيليوم يُشكل ربع كمية الذرات الموجودة في الكون من حيث الكتلة.
لفهم أصل الهيليوم، يجب علينا أن ننظر إلى أعظم فرن صهر كوني على الإطلاق: حادثة الانفجار الكبير Big Bang. ففي الدقائق القليلة الأولى، امتلأ الكون ببلازما حارقة احتوت على أعداد متساوية تقريباً من البروتونات والنيوترونات، وكانت هذه ظروفاً مثالية، كما قد تعتقد، لبناء عناصر غير الهيدروجين. ومع ذلك، فبعد مدة تصل إلى نحو ثلاث دقائق بعد الانفجار الكبير، كان هناك كثير من الفوتونات عالية الطاقة (جسيمات الضوء) التي تتحرك في كل مكان، بحيث إن أي نوى تشكلت كانت تنفجر مرة أخرى على الفور بفعل اصطدامها بفوتون.
ومع ذلك، بعد نحو ثلاث دقائق، توسع الكون وانخفضت درجة حرارته عدة بلايين من الدرجات. ولم يعد لدى الفوتونات ما يكفي من الطاقة لتحطيم النوى. وفجأة صار ممكناً حدوث الاندماج النووي، وأدت عاصفة من الاصطدامات إلى تحويل البروتونات والنيوترونات بسرعة إلى هيليوم.
وبعد نحو 100 ثانية، جرى التهام جميع النيوترونات الحرة، وتحددت كمية الهيليوم في الكون بصورة أساسية.
وحالياً يجد الفيزيائيون أن نظرية الانفجار الكبير تتنبأ بأن 25% تقريباً من كتلة الكون يجب أن تكون من الهيليوم، والبقية من الهيدروجين وقليل من الليثيوم. وهذا هو ما نراه في الكون حالياً بشكل أو بآخر، وهو أحد أقوى الأدلة على أن كوننا قد بدأ بالفعل بانفجار.
آلام الاحتضار
وفي الوقت ذاته، في أعماق ذلك العملاق الأحمر، ستستمر النواة بالتقلص والتسخُّن، لتصل في النهاية إلى 100 مليون درجة سيليزية. وهذه درجة ساخنة بما يكفي للسماح للذرات الأكبر حجماً بالتجمع، مما يؤدي إلى اندماج الهيليوم وتحوله إلى كربون، ومن ثم اندماج الكربون والهيليوم لتكوين الأكسجين. وعندما يحدث ذلك، ستتقلص الشمس مرة أخرى إلى نجم أصفر اللون، بحجم يبلغ 10 أضعاف حجمه الحالي تقريباً. ومع ذلك فإن هذه الحقبة الجديدة من اندماج الهيليوم ستكون قصيرة المدة على مقياس عمر الشمس 100 مليون سنة فقط وبعد ذلك ستستأنف النواة انهيارها الداخلي.
وفي أنفاسها الأخيرة سيؤدي الاختلاط بين طبقاتها الداخلية إلى اندماج الكربون والهيدروجين لتكوين النتروجين، إلى أن تقذف الشمس أخيراً، غلافها الجوي بلطف في الفضاء، لتشحن الوسط المجرّي المحيط بعناصر الكربون والنتروجين. وفي مركز هذه السحابة المتوسعة من الغاز المتوهج سيكون كل ما تبقى من نواة الشمس بصورة قشرة نواة متوهجة بحجم الأرض تقريباً: قزمٌ أبيض White dwarf.
جاء معظم كمية الكربون والنتروجين في أجسامنا من موت نجوم صفراء صغيرة، مثل شمسنا. ومع ذلك، بالنسبة إلى العناصر الأثقل، يجب أن ننظر إلى أحداث نجمية أكثر دراماتيكية.
وبينما ستموت شمسنا مع شيء من الأنين، فإن النجوم الأكبر حجماً ستنتهي بانفجار. لا تنتهي الحياة النووية لنجم تزيد كتلته على 8 أضعاف كتلة الشمس عندما تتحول نواته إلى كربون وأكسجين. بدلاً من ذلك تعمل جاذبيته الهائلة على تسخين النواة إلى أكثر من بليون درجة، وهذه حرارة كافية لتضغط نوى الكربون معاً لتكوين عناصر أثقل، بما في ذلك النيون والمغنيسيوم والصوديوم.
عندما ينفد الكربون بعد مدة ضئيلة بقدر 1,000 سنة يتعرض النجم لسلسلة أخرى من الانهيارات، حيث يسخن ويُشعل وقوداً نووياً جديداً: أولاً النيون، ثم الأكسجين. وفي يومه الأخير، تصل درجة حرارة نواته إلى 3 بلايين درجة، وهذه حرارة ساخنة بما يكفي لتحفيز تفاعل الاندماج النهائي، وهو حرق السيليكون لصنع الحديد والنيكل.
الحديد والنيكل هما العنصران الأكثر استقراراً في الجدول الدوري، ولذا فإن عملية دمجهما لتكوين عناصر أثقل تستهلك الطاقة فعلياً، بدلاً من إطلاقها. وهذا يعني أنه فور تحوُّل النواة إلى حديد ونيكل، فإن النجم يكون قد لمع لآخر مرة. ومع عدم وجود تفاعلات اندماجية أخرى متاحة لموازنة قوة الجاذبية، ينفجر النجم داخلاً، ويسحق النواة إلى حجم صغير يصل إلى نفس درجة كثافة النواة الذرية. عند هذه النقطة تقاوم القوة النووية القوية الجاذبية، ويرتد الجزء الأكبر من النجم بنحو فعّال عن النواة، مما يخلق موجة صدم Shockwave تمزق النجم من الداخل وتطلق انفجاراً كارثياً من ضوء ومادة في الفضاء: سوبرنوفا (مستعر أعظم) Supernova. وفي الوقت ذاته تنهار النواة ذاتها إلى نواة ذرية عملاقة واحدة مكونة بالكامل من النيوترونات نجم نيوتروني أو ثقب أسود، إذا كانت ثقيلة بما يكفي.
”يمكن للانفجار النجمي الناتج، والمعروف باسم السوبرنوفا من النوع الثاني، أن يتفوق بسطوعه فترة وجيزة على كل نجوم المجرّة“
يمكن للانفجار النجمي الناتج، والمعروف باسم سوبرنوفا من النوع الثاني Type II supernova، أن يفوق سطوع كل النجوم في المجرّة فترة وجيزة. في الظروف العنيفة داخل السوبرنوفا، تنتج عناصر ثقيلة أخرى غير الحديد والنيكل، حيث يحدث قصف النوى الأخف بموجة مكثفة من النيوترونات الحرة، ليؤدي هذا إلى ظهور عناصر تشمل الغاليوم Gallium، والجرمانيوم Germanium، والبرومين Bromine، والكريبتون Krypton. وفي الوقت ذاته، فإن الجسيمات التي تسارعت إلى سرعة قريبة من سرعة الضوء، تخترق النوى الأكبر مثل طلقات الرصاص، وتحطمها لتشكل عناصر أخف بكثير مثل البريليوم Beryllium والبورون Boron. تُطلق هذه النوى المصنوعة حديثاً إلى الفضاء الكوني، جنباً إلى جنب مع منتجات تفاعلات الاندماج السابقة، بما في ذلك الكربون والأكسجين والمغنيسيوم والحديد، مما يُثري الفضاء الكوني بكوكتيل غني بالعناصر.
قاذفات ذهب
ولعل التقدم الأخير الأكثر إثارة في فهمنا لأصل الذرات جاء في عام 2017، مع اكتشاف مرصد موجات الجاذبية الليزري (لايغو) LIGO لموجات الجاذبية الصادرة عن اصطدام نجمين نيوترونيين. وإضافة إلى موجات الجاذبية Gravitational waves، رصدت المراصد حول العالم الضوء الناتج عن ذلك الاصطدام الهائل، وكشفت عن كميات كبيرة من المعادن الثمينة، بما في ذلك البلاتين والذهب. في الواقع، ووفقاً لأحد التقديرات، أنتج اصطدام النجوم النيوترونية ما يكفي من الذهب لصنع 30 كوكباً أرضياً من الذهب الصلب.
بالطبع هذا الذهب لن يسبح في الفضاء بصورة كتل صلبة بحجم كوكب الأرض. بدلاً من ذلك تنتشر ذراته، جنباً إلى جنب مع ذرات جميع العناصر الأخرى التي تنتجها النجوم، عبر الغاز السديمي Nebulous gas الذي يملأ مجرّتنا. ومع مرور الوقت تتشكل عقد في هذه السحب حاضنات نجمية Stellar nurseries تتكثف منها سحب الهيدروجين والهيليوم والعناصر الأخرى معاً لبناء نجوم جديدة. ستحيط بهذه أقراص كوكبية أولية دوارة Protoplanetary discs، غنية بجميع العناصر التي أنتجتها الأجيال السابقة من النجوم. ومع مرور الزمن تتجمع هذه العناصر معاً لتصنع الكواكب.
من المذهل جداً أن نرى أن كل شيء أدى إلى صنع كل شخص، وكل شجرة، وجبل، ومحيط، إنما جاء من نجوم ماتت وانتهت منذ بلايين السنين.
عالم فيزياء الجسيمات في جامعة كيمبريدج. يعمل في مصادم الهادرونات الكبير LHC، وهو مؤلف كتاب غرائب الفضاء Space Oddities (2024)
في ظروف معينة، يمكن لنجوم مثل الشمس أن تنتج عناصر ثقيلة أيضاً
مع أننا شرحنا الطرق الرئيسة التي يجري من خلالها تصنيع العناصر، إلّا أن القصة الكاملة لأصلها معقدة بنحو لا يصدق. في بعض الأحيان يمكن لنجم صغير أن ينتج عناصر أثقل بكثير مما يحدث عادة من عملية الاندماج وحدها.
في إحدى الحالات النادرة، تكتسب الأقزام البيضاء White dwarfs – وهي الحالة النهائية للنجوم منخفضة الكتلة مثل شمسنا كتلة كافية لتتحول إلى سوبرنوفا. يحدث هذا عندما تكون قريبة بدرجة كافية من نجم قرين بحيث تسرق المادة منه تدريجياً. تسقط المادة على سطح القزم الأبيض إلى أن تصير كتلته عالية جداً لبَدء الاندماج النووي، مما يؤدي إلى تفجير القزم الأبيض بعنف بصورة سوبرنوفا من النوع 1a. وينتج عن ذلك كميات كبيرة من العناصر، مثل الكبريت والحديد والنحاس.
بل إنه من الممكن للنجوم منخفضة الكتلة، مثل الشمس، أن تنتج عناصر ثقيلة تتجاوز الحديد، مع أنها ليست كبيرة بما يكفي لدمج عناصر أثقل من الكربون والأكسجين؛ وذلك لأن النجوم تحتوي على بعض النوى الثقيلة الموروثة من أجيال سابقة من النجوم، مع أنها تكونت في معظمها من الهيدروجين في وقت تشكلها. يمكن لهذه النوى الثقيلة التقاط النيوترونات المنطلقة في أثناء تفاعلات الاندماج النووي للنجوم، وتحويلها إلى عناصر أثقل.