شـرح معالجة الصور الفلكية
يشرح لنا الفني الرئيس في معالجة صور التلسكوب جيمس ويب الفضائي، جو ديباسكال Joe DePasquale، كيف يمكنك تطبيق العمليات التي يستخدمها لإنتاج صور التلسكوب ويب المذهلة، لتحسِّن من صورك الفلكية
في رحلتي الأخيرة إلى لندن سنحت لي ولعائلتي فرصة زيارة المرصد الملكي في غرينتش. لقد انبهرت دائماً بالتحديات التي واجهها مستكشفو البحار في القرن الثامن عشر، الذين احتاجوا إلى أساليب دقيقة لتتبع موقع سفينة في المحيط، لكنهم لم يستطيعوا حل المشكلة قبل أن يكمل جون هاريسون John Harrison صنع جهاز الكرونومتر Chronometer البحري في العام 1759 (والذي يُعرَض في المرصد الملكي). يمكننا أن نرسم أوجه شبه مباشرة بين المراصد الفضائية التي تسعى إلى الحصول على إجابات عن الأسئلة الكبرى حول مكاننا في الكون ومستكشفي المحيطات الجريئين الذين أطلقوا أشرعتهم سعياً إلى استكشاف مجاهل الكوكب. إن التلسكوب جيمس ويب الفضائي، بدرعه الشمسية الكبيرة المنتشرة مثل شراع سفينة كونية، هو أحدث أدوات استكشافنا العظيمة، حيث يدور حول نقطة خيالية تبعد مسافة مليون ميل، تلتقط عندها مجموعة مراياه الذهبية العملاقة الضوء الذي كان يتدفق عبر الكون طوال بلايين السنين.
كم نحن محظوظون بوجودنا الآن في وقت يمكننا فيه العمل مع هذا الضوء القديم؟ لكن هذا لا ينطبق على التلسكوب ويب فقط إذ يمكن حتى لتلسكوب جيد يوجد في الفناء الخلفي للمنزل أن يقدم مشاهد للكون من شأنها أن تطيِّر الشعر المستعار عن رأس أي عالم فلكي ملكي في غرينتش! يمكن تحويل كثير من التقنيات التي أستخدمها في معالجة بيانات صور ويب بسهولة إلى بيانات تحصل عليها التلسكوبات في فناء المنزل الخلفي. دعونا نمضِ عبْر عملية العمل باستخدام البيانات المعايَرة من أي تلسكوب، وتحويلها إلى مشاهد كونية ملونة.
مد البيانات
ماذا نعني بالضبط بـ”مد البيانات“ Data stretching؟ ولماذا نحتاج إلى هذه العملية؟ تشير عملية المد هنا إلى قيم وحدات البكسل المفردة التي تشكل الصورة. تُعَد الكاميرات الحديثة ذات أداة الشحن القرني Charge-coupled devices (CCD) أدوات شديدة الحساسية للضوء، وهذا ما يجعل الصور التي تنتجها تتمتع بمجال ديناميكي هائل، يتجاوز بكثير ما يمكن رؤيته بالعين. في صورة أحادية اللون، 16 بت، يمكن لكل بكسل أن يكون واحداً من 65,536 درجة مختلفة من اللون الرمادي. ويرتبط هذا الرقم المحدد ارتباطاً مباشراً بالطبيعة الرقمية للبيانات. يمكن للبت أن يكون بإحدى قيمتين، 0 أو 1. في صورة 16 بت، يحمل كل بكسل قيمة محددة بتسلسل من 16 بت، حيث تشير القيمة 00000000000000000 إلى لون أسود نقي، والقيمة 111111111111111 إلى لون أبيض نقي. يمكن معرفة العدد الإجمالي للقيم الممكنة من خلال رفع العدد 2 إلى الأس 16، أو 65,536.
لتبسيط الأمور، دعونا ننظرْ في صورة الببغاء هذه ذات الـ 2 بت. سيكون إجمالي قيم البكسل الممكنة من الأسود إلى الأبيض هو 2 مرفوعاً إلى الأس 2، أو 4. مع أربع قيم محتملة فقط، يمكننا تسميتها بالفعل! يمكن أن يكون كل بكسل إما أسود، وإما رمادياً غامقاً، وإما رمادياً فاتحاً، وإما أبيض. تساعدنا هذه الصورة البسيطة أيضاً على تحديد المدرج التكراري Histogram. تخيّل سقوط جميع وحدات البكسل على الأرض وأنك تريد إعادة ترتيبها بحسب سطوعها. يمكن نقل كل بكسل إلى أحد الصناديق الأربعة التي حددناها الآن. عندما تحسب جميع وحدات البكسل، فأنت تكون قد أنتجت مدرجاً تكرارياً!
إذا أردنا جعل هذه الصورة تبدو أسطع، فسنحتاج إلى تغيير قيم البكسل باستخدام أحد برامج معالجة الصور، مثل Photoshop، أو البرنامج المجاني GIMP. تتيح لك أداة ضبط المنحنيات الموجودة في أحد هذه البرامج إمكانية تغيير قيم وحدات البكسل عبر المدرج التكراري كله. يمكننا تغيير وحدات البكسل، ليصير اللون الرمادي الداكن رمادياً فاتحاً، والرمادي الفاتح أبيض. هذا التغيير هو تغيير خطي، يغيّر النقطة البيضاء في الصورة؛ ففي حين أنه صار أسطع، فقد خسرنا بعض المعلومات. وبدلاً من ذلك، نلجأ إلى استخدام تغيير لا خطي Non-linear transformations على قيم البكسل، مع الحفاظ على تفاصيل تلك البكسلات البيضاء مع رفع وحدات البكسل باللون الرمادي الفاتح والرمادي الداكن إلى قيمة أعلى.
هل ما يراه التلسكوب ويب هو شيء حقيقي؟
مع تطبيق قدر كبير من المعالجة على البيانات الأولية للصور الفلكية، سيكون هذا هو السؤال الذي يطرحه كثيرون.
نظراً إلى الأثر الدرامي الكبير في صور التلسكوب ويب، من الطبيعي أن نتساءل عما إذا كان ما نراه فيها حقيقياً. أستطيع أن أجيب بنحو قاطع، بأن كل ما تراه في صور ويب هو حقيقي بنسبة 100%! يرى التلسكوب ويب الكون عبر موجات الأشعة تحت الحمراء، وهو نوع من الضوء خارج المجال الذي تستطيع أعيننا رؤيته. وكمعالجين للصور فإننا نستفيد من الطريقة التي ترى بها أعيننا الألوان لترجمة موجات الأشعة تحت الحمراء إلى ألوان تستطيع أعيننا إدراكها. لا يختلف الأمر عن نقل الموسيقى من درجة أوكتاف معينة إلى درجة أخرى. تظل النغمات النسبية بين العلامات الموسيقية كما هي، ولكن بوجه عام تتحول الموسيقى إلى درجات أعلى أو أقل. تمنحنا طريقة تلوين البيانات هذه ما نشير إليه باللون التمثيلي أداة قوية لاستكشاف الكون في عديد من الموجات خارج الضوء المرئي.
في الصور الفلكية نستخدم تحويلات لا خطية لتتيح لنا رؤية التفاصيل الباهتة المختبئة في الظلام مع الحفاظ على التفاصيل الساطعة.
خذ مجرّة حلزونية، سترى فيها نواة ساطعة تحيط بها أذرع لولبية خافتة من الضوء، تتخللها مناطق ساطعة حيث يمكن أن تتشكل النجوم. يتطلب تكوين صورة مثل هذه تفتيحَ البيانات منهجياً للسماح لنا برؤية تلك الأذرع الحلزونية الخافتة ورؤية النواة الداخلية الساطعة أيضاً. هذا هو كل ما يعنيه مد (بيانات) الصورة، ولماذا يُعد أحد أهم عناصر إنتاج صورة فلكية عالية الجودة.
هناك كثير من الأدوات المتاحة لمد بيانات الصور الفلكية. هناك خيار مجاني رائع، هو أداة FITS Liberator من مركز NOIRLab (noirlab.edu/public/products/fitsliberator)، وهي أداة مستقلة تعمل على الحواسيب PC أو أجهزة Mac. تتيح لك واجهة البرنامج البديهية استكشاف قيم البكسل في صورتك وتوسيعها كما تراه مناسباً. يوفر خيار ’Asinh‘ ضمن وظيفة ’Scaling (Dynamic Range)’ نقطة انطلاق رائعة للمد. حاول تحميل بياناتك، وضبط وظيفة Scaling على Asinh، ثم عين ”مستوى الذروة المَقيس“ Scaled peak level على القيمة 100، مع التأكد من أن أشرطة التمرير ذات النقاط السوداء والبيضاء تشمل الجزء الأكبر من البيانات في المدرج التكراري السفلي.
معايرة البيانات
إحدى فوائد العمل مع البيانات الواردة من المراصد الاحترافية مثل ويب هي أنه قد جرت معايرتها تماماً بالفعل، وهذا ما يسمح لك بالانتقال مباشرة إلى مرحلة تكوين صورة ملونة. إذا كنتَ تعمل باستخدام بيانات تلسكوبك الشخصي، فستحتاج إلى الاهتمام بخطوات المعايرة هذه قبل البدء هنا. ومع ذلك فحتى البيانات التي جرت معايرتها بالكامل ستظل تحتوي على شوائب متبقية من نظام التصوير، مثل الأشعة الكونية والانعكاسات، ومستويات الخلفية غير المتساوية، والبيانات المشبعة. بعد الانتهاء من مد البيانات، قد تلاحظ (وجود) هذه الشوائب المتبقية غير المرغوب فيها. هذا هو الوقت المناسب للبدء في معالجتها؛ ويرجح أن تستمر أعمال التنظيف هذه عبر الأقسام التالية أيضاً.
من الأمثلة على الشوائب المتبقية من بيانات التلسكوب ويب هي تلك النوى السوداء التي نراها في صور النجوم الساطعة، والتي هي في الواقع نتيجة لعملية المعايرة التي تحدد وحدات البكسل المشبعة. أتعامل مع هذه المشكلة باستخدام نص برمجي مُعدَّل ضمن برنامج PixInsight (متاح هنا: bit.ly/PixelClipJDP) يمكنه استبدال وحدات البكسل السوداء تلك بالبكسلات البيضاء المحيطة. يمكن تحقيق نتيجة مماثلة باستخدام أداة التحديد ”مجال اللون“ Color Range في برنامج Photoshop، حيث تضبط بعناية لتحديد وحدات البكسل تحت حد معين ثم ضبطها على اللون الأبيض.
العمل مع اللون
ينتج اللون في الصور الفلكية من استخدام المرشحات عند الحصول على البيانات. تفصل المرشحات الضوء الذي نرصده إلى مجالات محددة جداً من الأطوال الموجية (موجات الضوء). يمكن حتى للكاميرات الموجودة في هواتفنا المحمولة استخدام مرشحات لإنتاج صور ملونة، لكن هذه المرشحات عادةً ما تكون مدمجة في وحدات البكسل، ولذا لا نراها مطلقاً. تحتوي كاميرا التلسكوب ويب، NIRCam، على 29 مرشحاً لنفاذ المجال الموجي، مما يوفر لعلماء الفلك مجموعة من الخيارات لالتقاط بياناتهم. وبالمثل تَستخدم الكاميرات التي طورت للتصوير الفلكي الأرضي المرشحات لتوفير البيانات اللازمة لصورة ملونة.
ستتكون الصورة الملونة الأساسية من ثلاثة مرشحات واسعة النطاق الموجي، تجمع الضوء من مرشح أحمر مع الضوء من مرشحات خضراء وزرقاء. لكن البيانات هي ذاتُ تدرج رمادي، ولذلك تستخدم الألوان في برنامج معالجة الصور ونستخدم ترتيباً لونياً لتطبيق الألوان منهجياً. في حالة المرشحات R وG وB يبدو الأمر واضحاً جداً. ترتيب البيانات لونياً يعني أننا نطبق اللون وفقاً لطول موجة الضوء، حيث يجري تحديد الموجة الأطول باللون الأحمر، والموجة متوسطة الطول باللون الأخضر، والموجة الأقصر باللون الأزرق. نحن نستخدم هذا الأسلوب ذاته مع بيانات التلسكوب ويب، مع أن الضوء الذي يلتقطه ويب هو ضوء الأشعة تحت الحمراء.
أستخدمُ لتطبيق اللون إما برنامج PixInsight، بأداة PixelMath، أو بأدوات طبقات التعديل في برنامج Photoshop. يمكنك أيضاً تجربة برنامج GIMP لتطبيق الألوان على البيانات الفلكية. في أثناء تنفيذك عملية دمج البيانات بالألوان، انتبه لأي مشكلات في المعايرة، مثل الأشعة الكونية. يمكن التعامل مع هذه من خلال العثور على وحدات البكسل المخالفة واستبدالها بمتوسط قيمة وحدات البكسل القريبة منها، مع الحرص على عدم إضافة أو إزالة أي شيء لم يكن موجوداً بالفعل في البيانات.
موازنة الألوان وتكوين الصورة
نهنئك ببلوغ هذه النقطة في العملية! لقد عثرت الآن على أفضل توسعة لبياناتك، واستخدمت الألوان بأسلوب لوني. يمكنك التوقف هنا، ولكن ستفوتك بعض الخطوات المهمة جداً في هذه العملية. يمكن لموازنة الألوان وضبط درجة اللون في صورتك أن تحولها إلى شيء مذهل حقاً. لا تسمح جميع المرشحات بمرور كمية مكافئة من الضوء عبرها، ولذلك سنحتاج إلى موازنة إسهامات المرشح في الصورة المركبة النهائية لتجنب أي اختلال في توازن الألوان.
على أقل تقدير، ستحتاج إلى التأكد من أن خلفية السماء الفارغة لصورتك هي باللون الرمادي الداكن المحايد تقريباً. إذا كانت صورتك تحتوي على مجرّات حلزونية تواجهك مباشرة، فهي تمثل نقطة مرجعية بيضاء ممتازة. يمكن فعل هذا في برنامج PixInsight باستخدام أداة ”معايرة اللون“ ColorCalibration أو في برنامج Photoshop باستخدام طبقات ضبط المنحنيات Curves. حالما ترضى بتوازن الألوان لديك، يمكنك إجراء بعض التعديلات النهائية للدرجات اللونية Final tonal adjustments، أيضاً باستخدام المنحنيات، مع التركيز للحصول على تباين عام جيد عبر الصورة. أنا أفضِّل أن تكون خلفية السماء الفارغة لدي أعلى قليلاً من اللون الأسود التام، وأتأكد من أن الأجزاء الأسطع في صورتي هي بيضاء تماماً من دون أن تكون مشبعة Saturated بإفراط.
وأخيراً تأمَّلْ في تكوين صورتك. هل تتبع تقريباً قاعدة التثليث؟ Rule of thirds هل هناك خطوط رئيسة قد توجه العين نحو معالم مختلفة؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكنك إعادة التوجيه بعملية اقتصاص و/أو تدوير لإنتاج صورة أقوى؟ لا يوجد أعلى أو أسفل في الفضاء، ولست ملزماً بالالتزام بالمعيار العلمي المتمثل في الشمال = أعلى، والشرق = اليسار. بالطبع، في حالة الأشياء المعروفة، قد ترغب في الالتزام بالاتجاه القياسي لسهولة التعرف عليها، ولكن عليك أن تحكم على ما سيجعل صورتك أقوى بصرياً. أحياناً ألجأ إلى الاستلهام من لوحات الأساتذة القدامى، أو تصوير المشاهد الطبيعية. هناك سبب وراء صمود هذه اللوحات والصور أمام اختبار الزمن إنها تخاطب غريزتنا البصرية، وسنفعل حسناً أن نتعلم من دروسها الجمالية.
معنى اللون في الصور الفلكية
بعيداً عن كونه مجرد إضافة جميلة، يُعَد اللون جزءاً مهماً من عملية فك شفرة المعلومات العلمية في الصور.
مع أن الألوان تُظهر التفاصيل والجمال المفعم بالحياة، كما هي صور التلسكوب ويب، إلّا أن اختيارها للصور ليس عشوائياً. إنها تتمتع بقيمة علمية حقيقية. تمنحنا عملية تطبيق الألوان وفقاً لطول الموجات الضوئية معلومات أكثر في الصورة النهائية مما قد نحصل عليه من صورة واحدة بتدرجات رمادية.
على سبيل المثال، في صور المجال العميق الغنية بالمجرّات، تؤدي الألوان دوراً حيوياً في إعطائنا إشارة مرئية إلى المجرّات الأبعد في الصورة. من المحتمل أن تكون اللطخات الحمراء الخافتة هي مجرّات بعيدة جداً تشكلت بعد الانفجار الكبير Big bang بعدة مئات من ملايين السنين. وبالمثل، في صور السُّدُم الموجودة داخل مجرّتنا، تشير الألوان إلى العمليات الكيميائية المختلفة التي تحدث داخل السديم. يمكننا التعرف على توزيع العناصر المختلفة داخل السديم باستخدام الألوان المرتبة بتدرجها اللوني. إنها أكثر من مجرد صورة جميلة!
استنتاجات
رحلتنا معاً تنتهي هنا، لكن رحلتك قد بدأت من فورها! تماماً كما أبحر مستكشفو أواخر القرن الثامن عشر وهم أكثر ثقة، من أي وقت مضى، بقدرتهم على التنقل بدقة حول الأرض، آمل أن يكون هذا قد أعطاك التوجيه الذي تحتاج إليه للارتقاء ببياناتك إلى المستوى التالي. فعلى الرغم من وجود اختلافات جذرية بين تكنولوجيا التلسكوب جيمس ويب الفضائي وتلسكوب الفناء الخلفي للمنزل، يمكننا تطبيق المبادئ ذاتها في معالجة الصور الفلكية. وكمستكشفين للكون في القرن الحادي والعشرين، تبدو محيطاتنا بصورة بكسلات لا حصر لها ترسلها إلينا أدوات استكشافنا. وإن الغوص في وحدات البكسل هذه والعثور على التفاصيل المدفونة في الظلام هو مسؤوليتنا. هيا انطلق واكتشف؛ مع الأمنيات الدائمة لك بسماء صافية!
الخبير الفني الرئيس لمعالجة الصور الفلكية في معهد علوم تلسكوب الفضاء، بالتيمور، الولايات المتحدة الأمريكية، بيت العلوم وعمليات مهمة تلسكوب جيمس ويب الفضائي