أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
شروحات

كيف نعرف أن الأرض ليست مسطحة

منذ آلاف السنين عرف الفلكيون أن الأرض هي كرة

من الشائع أن نسمع مقولة: “قبل 500 عام، كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة!”. لكنها أيضاً مقولة غير صحيحة. فقد تمكن الفلكيون قبل أكثر من 2,000 سنة من إثبات أن كوكبنا هو كرة، وذلك باستخدام طرق يمكنك إعادة تطبيقها في البيت.

الأرض ليست مسطحة
في العام 350 قبل الميلاد رأى أرسطو دليلاً على انحناء الأرض عندما تختفي أجسام السفن في أثناء إبحارها بعيداً

وُجد أول مرجع معروف يشير إلى الأرض الكروية في النصوص الدينية الهندية القديمة. فقد تضمنت أناشيد الريغفيدا Rigveda، التي أُلِّفت أولَ مرة بين العامين 1500 و 1000 قبل الميلاد، النصَّ التالي: ”في وسط الكون، تجلس الأرض الكروية“. ومع الأسف، فإنه على الرغم من وجود أدلة كثيرة تشير إلى المعرفة المتقدمة جداً بعلم الفلك في الهند القديمة، لا يوجد سوى القليل من السجلات الباقية التي تدل على طرقهم وأساليبهم العلمية.

ولذا يجب أن ننتقل إلى ”فلاسفة الطبيعة“ Natural philosophers اليونانيين. يأتي أول دليل مكتوب ينص على أن الأرض هي كرة من أمبادوقليس Empedocles وأناكساغوراس Anaxagoras في العام 430 تقريباً قبل الميلاد؛ إذ لاحظ كلاهما أن ظل الأرض ظهر دائرياً على القمر في أثناء خسوفه. يمكنك معاينة انحناء ظلها هذا بنفسك في يوم 28 أكتوبر 2023، عندما يحين موعد خسوف القمر الجزئي التالي المرئي في المنطقة العربية، وأي خسوف آخر مقبل.

الأرض ليست مسطحة
بالنسبة إلى الراصدين في المناطق الشمالية، يبدو نجم القطب في موقع أعلى في السماء وهذا دليل إضافي على أن الأرض ليست مسطحة

وفي العام 350 قبل الميلاد أضاف أرسطو مزيداً من الأدلة، عندما أشار إلى أنه عندما تُبحر سفينة ما وراء الأفق، فإن صواريها تظل مرئية بعد اختفاء بدنها، وهو ما قد تتوقعه إذا أبحرت السفينة فوق حافة منحنية. ويمكنك أنت أن ترصد السفن إذا كنتَ قريباً من ميناء، مع أنك ستشاهد طوابقها العلوية، بدلاً من صواري أشرعتها.

في ذلك الوقت كان معروفاً أن الكوكبات النجمية المختلفة تظهر في أماكن مختلفة على سبيل المثال، يبدو نجم الشمال North Star أقربَ إلى الأفق في مدينة القاهرة منه في مدينة أثينا. ومع ذلك، فقد كان أرسطو أولَ من اقترح أنه نظراً إلى أن مصر تقع جنوباً، فإنها ستنظر إلى النجم من زاوية منخفضة إذا كان العالم هو كرة. في المرة التالية التي تقضي فيها عطلتك في نصف الكرة الشمالي، راقب نجم الشمال وشاهد كيف يبدو موقعه مقارنة بمشهده من موطنك. 

تقدير حجم الكوكب
لاحظ اليونانيون أيضاً أن الأثر ذاته قد سبب اختلاف أطوال الظلال، اعتماداً على مدى بُعدك شمالاً أو جنوباً. استخدم عدةُ علماء هذه الملاحظةَ لقياس محيط الأرض، ولكن أول طريقة حساب مسجلة جاءت في العام 240 قبل الميلاد تقريباً. عرف إراتوستينيز Eratosthenes، من بلدة قورينة (مدينة شحات في ليبيا حالياً)، بوجود بئر في مدينة أسوان Seyne، حيث تضيء الشمس سطح ماء البئر تماماً في ظهيرة يوم معين من السنة، ولكن ليس جدرانها، مما يُظهر أن الشمس كانت عمودية تماماً على البئر.

الأرض ليست مسطحة
في أثناء الخسوف تُلقي الأرض ظلاً دائرياً، وليس بيضاوياً، على القمر وهو أمر عَرف فلكيو القرن الخامس قبل الميلاد أنه يشير إلى عالم كروي

وفي وقت لاحق عمل إراتوستينيز في مكتبة الإسكندرية في مصر، على بُعد مئات الكيلومترات شمالاً. وفي اليوم ذاته من العام نصب عصا واستخدم طول ظلها لقياس زاوية اتجاه الشمس ليجدها بمقدار 7.2°، أي 1/50 تقريباً من دائرة كاملة. وهذا يعني أن المسافة بين المدينتين كانت تبلغ 1/50 من محيط الأرض. ولحسن الحظ أن تلك المسافة كانت قد قيست جيداً بالفعل، ولذلك فقد عرف أن المسافة بين المدينتين بلغت طول 5,000 استاديا Stadia (عصا مُدرَّجة تُستخدَم لقياس الأطوال والمسافات). يختلف الطول الدقيق لأداة القياس استاديا في العالم القديم، ولكن هذا يضع قياس إراتوستينيز بين قيمتي 38,000 و 46,000 كم أي ليس بعيداً عن المحيط الحالي المَقِيس حول القطبين والذي يبلغ 40,008 كم.

على مدى القرون التالية انتشرت معرفة كروية الأرض بين الفلكيين في أوروبا والهند والعالم العربي والإسلامي. ومع ذلك فإن أول دليل مباشر على كروية الأرض جاء في العام 1519، عندما طافت بعثة ماجلان-إلانكو الاستكشافية Magellan–Elanco expedition حول العالم أول مرة. ولكنك إن لم تكن بحاراً خبيراً وبالغ الثراء، فقد تواجه مشكلة في إعادة هذه التجربة بنفسك. 


شكل الأرض

كان واضحاً أن كوكبنا هو كروي، لكن تحديد شكله الدقيق كان أمراً أكثر صعوبة

اعتقد اليونانيون القدماء أن الدوائر والأشكال الكروية هي أشكال مثالية، وهو اعتقاد انتقل إلى علوم العالم القديم. ولم تكن هناك محاولة للتأكد من ذلك إلى أن جاء عصر التنوير، ومعه نظريتان جديدتان عن شكل كوكبنا. اقترحت نظريات الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت René Descartes حول الدوامات في الأثير أن الأرض كانت بشكل بيضة منتصبة، متطاولة نحو القطبين. وفي الوقت نفسه اقترحت نظرية الجاذبية لإسحاق نيوتن Isaac Newton أن دوران الأرض حول نفسها سيجعل خط استوائها ينتفخ خارجاً، ويتسطح قطباها.

أثبتت الرحلات الاستكشافية إلى خط الاستواء (في أعلى اليسار) وإلى لابلاند (أعلى اليمين) أن نيوتن كان مُصيباً في العام 1687 في نظريته القائلة بأن الأرض هي أكثر تسطحاً بقليل باتجاه القطبين

إن معرفة أي الشكلين هو الصحيح من شأنه أن يزيد كثيراً من دقة الملاحة البحرية، ولهذا فقد رعت الحكومتان الفرنسية والإسبانية بعثتين استكشافيتين لحل المشكلة. اتجهت إحداهما إلى منطقة لابلاند Lapland بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية، والثانية إلى خط الاستواء، لقياس طول درجة واحدة في مناطق خطوط العرض. إذا كانت الدرجة أطول في منطقة لابلاند، فسيكون ديكارت على حق. وإذا كانت أطول عند خط الاستواء، فسيكون نيوتن هو المُصيب.

في العام 1735 أبحرت رحلة استكشافية إلى جبال الآنديز Andes في الإكوادور الحالية. كان التخطيط السيئ، والطقس القاسي، وانفجارات البراكين، وقائد البعثة الذي أنفق كثيراً من أموال الفريق لشراء ألماس لعشيقته، يعني مرور عَقد قبل عودة أي فرد من الطاقم إلى الوطن. وبحلول ذلك الوقت كانت بعثة لابلاند قد عادت منذ مدة طويلة، وقارنت قياساتها بتلك التي نُفذت في باريس، وأثبتت أن فكرة نيوتن كانت صحيحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى