الرجل الذي وضع الشمسَ في مـركـز الـكَـون
يصادف هذا العام مرورَ 550 عاماً على ولادة نيكولاس كوبرنيكوس. في هذه المقالة تستكشف إميلي وينتربيرن حياتَه وإرثَه
نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus هو اسم معروف حالياً، إذ ذاعت شهرتُه على أنه عالم الفلك الذي قدَّم لنا نموذجاً للكون تكون الشمس فيه هي المركز. لكن، تُرى، ما الذي نعرف عن هذا العالِم؟ وكيف أحدث ثورة في إدراكنا للكون؟
وُلِد نيكولاس كوبرنيكوس في بولندا في 19 فبراير 1473م، وكان يتحدَّر من عائلة ثرية ذات علاقات اجتماعية متينة. وكان والده تاجراً، وكذلك جده لأمه. وكان للعائلة صلات عديدة بالكنيسة الكاثوليكية، وهو أمر جعلها في موقع قوي في بولندا في ذلك الوقت. عندما كان كوبرنيكوس في العاشرة من عمره، تُوُفي والده وتولى عمه لوكاس واتزنرود Lucas Watzenrode – الذي كان مسؤولاً رفيع المستوى في الكنيسة – إدارة تعليمه. فأرسله إلى مدرسة الكنيسة، ثم إلى جامعة كراكوف University of Kraków. كانت الجامعات الأوروبية في ذلك الوقت أماكن لتدريب الأثرياء من أجل الالتحاق بثلاث مهن: القانون والكنيسة والطب. وبالفعل، فقد اشتملت دراسته في جامعات بولندا وإيطاليا على هذه التخصصات العلمية.
نظام عالم قديم
كان العالَم الأكاديمي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر مختلفاً تماماً عن العالَم الذي نعرفه حالياً. فلم يكن لأحد أن يحصل على درجة علمية في علم الفلك Astronomy، وكان يُنظر إلى علم التنجيم Astrology على أنه مادة علمية بالفعل ومهمة. في كراكوف، بدأ كوبرنيكوس القراءة عن علم الفلك وربما حضر محاضرات لأعضاء هيئة تدريس من كليات الرياضيات وعلم التنجيم في كراكوف. وحتى عندما بدأ دراسة الطب، فقد تعلم مزيداً عن علم التنجيم، حيث كان هذا جزءاً أصيلاً من المعارف الطبية في ذلك الوقت.
وبحلول الوقت الذي بلغ فيه الثلاثين من عمره، كان كوبرنيكوس قد أنهى دراسته وبدأ العمل كسكرتير وطبيب مع عمه ذي العلاقات الاجتماعية المتينة. وعندما تُوُفي عمه واتزنرود في العام 1512، انتقل كوبرنيكوس إلى مدينة فرومبورك Frombork على ساحل بحر البلطيق، والتي صارت موطنه بقية حياته. في فرومبورك واصل القراءة عن علم الفلك، الذي كان في ذلك الوقت ما يزال مقيداً بنموذج أرسطو للكون، وهو النموذج الذي صوّر الأرض ككوكب غير مثالي يقع في مركز الكون، محاطاً بكرات سماوية Heavenly spheres مثالية. وأخذ يرصد سماء الليل، مطوراً أفكاره في أثناء تسجيل أرصاده للكواكب وحوادث الكسوف والخسوف. كما تولى المناصب الإدارية والاستشارية داخل الكنيسة والدولة؛ ثم كتب في العام 1514 أول مخطوطة له يصف فيها نموذجه للمجموعة الشمسية الذي تأخذ الشمس فيه موقع المركز. وكانت هذه هي المسودة الأولى، التي خصصها لأصدقائه ومعارفه المقربين فقط، تسمى باسم تعليق بسيط Commentariolus.
تغيير التصورات عن الكون
كان كوبرنيكوس حذراً جداً بشأن نظريته، والاضطراب المحتمل الذي يمكن أن تُحدثه، فقد كان نموذج أرسطو هو النموذج الذي تتبناه الكنيسة. وتطلبت هذه الرؤية أن يضيف بطليموس ”أفلاك تدوير“ Epicycles (يتحرك فيها كل كوكب ضمن دائرة صغيرة في أثناء وجوده في دائرته المدارية الأكبر) لإعطاء وصف أفضل للحركة الفعلية المرصودة للكواكب، وخاصةً الحركة التراجعية Retrograde motion. ولزمن طويل، تمسك الأوروبيون بهذا النموذج؛ أما في العالم الإسلامي، فقد كان العديد من علماء الرياضيات والفلك يتساءلون ويعدلون هذا النموذج من أجل فهمه بصورة أفضل. ومن الأعمال المذكورة في نصوص كوبرنيكوس، نعلم أنه كان على دراية ببعض هذه النظريات على الأقل في أثناء تطويره نظرياته الخاصة.
وبسبب نقص المصادر الأولية، يمكن للمؤرخين التكهُّن فقط بشأن كيفية توصل كوبرنيكوس إلى نموذج مركزية الشمس Heliocentric model. ومع ذلك، فمن المتفق عليه عموماً أن ذلك كان نتيجة مزيج من رصده الكواكب في أوائل القرن السادس عشر من مرصده في فرومبورك، وتحليله لنماذج الكواكب تحليلاً دقيقاً، بما في ذلك نماذج العالم الإسلامي، إلى جانب رغبة فلسفية في البساطة. وكانت كل تلك الدوائر اللازمة لتفسير الحركة التراجعية تقف في طريق نموذج رياضي أنيق، وبسيط، ومفيد.
ومع انتشار كتابه تعليق بسيط بين معارفه، واصل كوبرنيكوس عمله، متعاوناً مع فلكيين آخرين في كراكوف على رصد حوادث الكسوف والخسوف. وقد شارك في مناقشات حول إعادة صياغة التقويم اليولياني، والتي ستؤدي في النهاية إلى اعتماد التقويم الغريغوري الذي نستخدمه حالياً. وشاع عنه أنه شخص انعزالي وغير ودود، وكباحث لديه نظرية سرية غامضة ومشكوك فيها – على الأقل هكذا جرى تصويره في مسرحية موروسوفوس Morosophus (“الحكيم الأحمق” The Foolish Sage).
بحلول العام 1532، كان كوبرنيكوس قد أنهى كتابة كتابه ”حول دوران الكواكب السماوية“ De Revolutionibus orbium coelestium، من دون أن يكون جاهزاً للنشر. وبعد عام شرح صديقه يوهان ألبريخت ويدمانستيتر Johann Albrecht Widmanstetter، سكرتير البابا كليمنت السابع Pope Clement VII، نظرية كوبرنيكوس للبابا واثنين من الكرادلة، ووجدوها شديدة الأهمية. وعلى الرغم من أنها لم تكن قد نُشرت بعد، فقد بدأ مزيد من المثقفين في معظم أنحاء أوروبا يسمعون بتلك النظرية.
في العام 1543 أمكن إقناع كوبرنيكوس في النهاية بالنشر، لكنه فعل ذلك بحذر شديد. وقد كرس الكتاب للبابا بول الثالث Pope Paul III، وكتب ناشر الكتاب أندرياس أوزياندر Andreas Osiander مقدمة تشرح بوضوح أن النموذج يجب النظر إليه على أنه أداة أو نموذج رياضياتي، وليس تمثيلاً لما كان موجوداً بالفعل. وقد كُتب الكتاب باللغة اللاتينية، التي كانت لغة النخبة المثقفة والأثرياء، لذا لم يكن متاحاً للجمهور.
وقد آتت احتياطاتُ كوبرنيكوس وارتباطه الطويل الأمد بالكنيسة ثمارَها. لم يقتنع الجميع، لكن الخلافات كانت حول المعادلات الرياضيات والتفسيرات العلمية وليست خلافات لاهوتية Theological. وقد وجد تيخو براهي Tycho Brahe، عالم الفلك السويدي (الذي وُلد بعد وقت قصير من صدور الكتاب)، أن نموذج كوبرنيكوس غير مُرضٍ، وابتكر نموذجاً خاصاً به، يناسب البيانات نفسها، ولكنه يُبقي الأرض في المركز.
في كتاب براهي، تدور الكواكب حول الشمس، وتدور الشمس والقمر حول الأرض. وعلى الرغم من أن براهي كان مسروراً بنتيجة إبقاء الأرض في مركز الكون، فإن نموذجه لم يكتب له النجاح. فقد أظهرت الأرصاد والنظريات التي قدمها مساعده يوهانس كبلر Johannes Kepler، ثم غاليليو غاليلي Galileo Galilei لاحقاً، أن نموذج كوبرنيكوس كان أفضل بكثير.
واشتهر غاليليو باستقبالٍ عمله استقبالاً مختلفاً تماماً عن كيفية تقبل أعمال كوبرنيكوس، لعدة أسباب. فالجهد الذي بذله غاليليو لاسترضاء الكنيسة أو مناشدتها كان أقل بكثير مما فعل كوبرنيكوس. فلم يحاول تقديم أفكاره عن مركزية الشمس بطريقة يرونها مطمئنة، ولم يحد من عدد قرائه بالكتابة باللغة اللاتينية فقط. وأيضاً، كانت ثقة الكنيسة بسلطتها المطلقة أقل بكثير من ثقتها تلك في القرن السابع عشر، نظراً لظهور البروتستانتية، وكانت أيضاً أقل استعداداً لتقبل النقد.
وحالياً، يأتي اسم كوبرنيكوس مرادفاً لعلم الفلك. ويُرى وجهه مطبوعاً على أوراق النقود، والطوابع، ويظهر في الجداول الزمنية للتاريخ الفلكي. بل إن هناك فوهةً على سطح القمر تحمل اسمه. ولا ننسى برنامج كوبرنيكوس التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، والذي يساعدنا على فهم وتخفيف آثار تغير المناخ بصورة أفضل من خلال مراقبة الأرض من الفضاء. لقد كان كوبرنيكوس في عصره قادراً على مناقشة أفكار علمية تشكل تحدياً، وتقديمها للسلطات بطريقة مسالمة ومثمرة. وقد يتمكن برنامج وكالة الفضاء الأوروبية الذي يحمل اسمه من أن يفعل الشيء نفسه.
إميلي وينتربيرن Emily Winterburn: مؤرخة ومؤلفة في علم الفلك.