أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقالات الإشتراك

لماذا تُظهر المجرّات انزياحاً نحو الأحمر؟

في الجزء الأول من دورتنا الجديدة في الكوزمولوجيا (علم الكونيات)، ندرس لماذا تبدو المجرّات أكثر احمراراً كلما زاد ابتعادها عنا

دورة مكثفة في علوم الكونيات

منذ إطلاق تلسكوب جيمس ويب الفضائي JWST، كان هناك اهتمام متجدد بالمجرّات البعيدة في الكون، تلك التي تظهر طيوفها انزياحاً أكثر نحو اللون الأحمر. الانزياح الأحمر Redshift هو مصطلح عرفه قراء مجلة سماء الليل BBC Sky at Night Magazine من قبل، ولكن ما هو بالضبط؟ لماذا تُظهر المجرّات انزياحاً نحو الأحمر؟ وكيف يكون الانزياح الأحمر مقياساً للمسافة؟

الانزياح الأحمر هو تماماً ما يوحي به الاسم. يتكون الضوء من موجات يحدد طولُها الموجي لونَها. لضوء المجرّات البعيدة التي نرصدها بتلسكوباتنا لونٌ أكثر حمرة بقليل من الضوء المنبعث من تلك المجرّة منذ فترة طويلة لقد تحولت الأطوال الموجية نحو الطرف الأحمر من الطيف. لكن لماذا يحدث هذا؟

لعبة الأرقام:

يصف علماء الفلك الانزياح الأحمر للضوء (الذي يُشار إليه بالرمز z) باستخدام النسبة المئوية التي تغير فيها الطول الموجي. على سبيل المثال، إذا وصل الضوء المرئي لمجرّة ما، المنبعث بطول موجي يبلغ 500 نانومتر (nm)، إلى الأرض بطول 700 نانومتر، فهو يكون قد خضع لانزياح نحو الأحمر بمقدار 200 نانومتر. وهذا تغير بنسبة 40% عن الأصل، لذا فإن الانزياح الأحمر لهذه المجرّة
هو z = 0.4.

في كثير من الأحيان يفسَّر هذا الانزياح نحو الأحمر خطأً على أنه تأثير دوبلر Doppler effect، حيث تغير حركة الجرم طول الموجات التي تنبعث منه. إذا كانت تلك الأجرام تتحرك مبتعدة، فإن قمة كل موجة جديدة تصدر عند مسافة أبعد قليلاً عن المراقب من سابقتها، لذلك تستغرق قمة كل موجة تالية وقتاً أطول للوصول، وهو ما يتوافق مع رصد موجة أطول. في مثال الموجات الصوتية، يعني هذا درجة صوت منخفضة؛ أما في حالة الضوء، فهو يعني لوناً أكثر حمرة. وإذا كان مصدر الضوء يتحرك مقترباً، فسنلاحظ موجةً أقصر (نغمة صوتية أعلى، أو ”انزياحاً أزرق“ E). وكلما كان الجسم يتحرك بسرعة أعلى نحو المراقب، أو بعيداً عنه، كان التحول أكبر.

غوفرت شيلينغ Govert Schilling:
نشرت مطبعة جامعة هارفارد كتابه بعنوان: الفيل في الكون
The Elephant in the Universe
كان الفيزيائي النمساوي كريستيان دوبلر Christian Doppler قد تنبأ بهذه الظاهرة في العام 1842. وفي العام 1845، أُظهِرَ تأثير دوبلر Doppler effect أول مرة على الصوت، في تجربة شهيرة أجراها عالم الأرصاد الجوية الهولندي كريستوفوروس بايز بالوت Christophorus Buys Ballot عندما وضع عازفي بوق على قطار متحرك. سمع المراقبون على المنصة نغمة صوت البوق المتغيرة فكانت أعلى مع اقتراب القطار، وأضعف مع ابتعاده. 

صناعة الموجات
بعد ثلاث سنوات رصد الفيزيائي الفرنسي أرماند هيبوليت فيزو Armand Hippolyte Fizeau وجود انزياح دوبلر Doppler shift في ضوء النجوم. وباستخدام المعالم الطيفية Spectral features الخطوط الساطعة التي تظهر عند أطوال موجية محددة فقد أمكنه معرفة مدى الانزياح المرصود لطول موجاتها، والكشف عن سرعة النجم على طول خط البصر: سرعته الشعاعية Radial velocity.

ومع ذلك، فإن رصد الانزياح الأحمر على مسافات أكبر لم يحدث حتى العام 1912، عندما وجد العالم الفلكي فيستو سليفر Vesto Slipher أن معظم المجرّات قد أظهرت انزياحاً كبيراً نحو الأحمر، مما يعني أنها كانت تبتعد بمئات أو حتى آلاف الكيلومترات في الثانية. لكن اكتشاف توسع الكون، بواسطة عالم الكونيات البلجيكي جورج لوميتر Georges Lemaître وزميله الأمريكي إدوين هابل Edwin Hubble في عشرينات القرن العشرين، قلب كل شيء رأساً على عقب.

انزياح المجرات
عرض العام 1845 لتأثير دوبلر. سمع المراقبون على المنصة صوت الموسيقى بحدة أعلى مع انخفاض طول موجاتها الصوتية

الأمر هو التالي: المجرّات لا تتسابق عبر فضاء ثابت، كما يعتقد كثير من الناس. بدلاً من ذلك، إن الفضاء الفارغ ذاته هو الذي يتوسع، ويدفع بالمجرّات للتباعد بعضها عن بعض أكثر وأكثر. ولو لم تكن هناك حركة فضائية حقيقية، فلن يمكن حدوث تأثير دوبلر.

انزياح المجرات
عندما ينتقل الضوء عبر الفضاء المتوسع، يتمدد إلى أطوال موجية أكبر

وإذن لماذا ينحرف ضوء المجرّات إلى اللون الأحمر؟ حسناً، فكِّرْ في موجات ضوء ذات طول موجي معين يصدر من مجرّة بعيدة. قد يستغرق وصول هذه الموجات الضوئية إلى الأرض ملايين السنين. في أثناء هذا الوقت يتوسع الفضاء الفارغ، مما يؤدي إلى تمديد موجات الضوء معه، بحيث تصل إلى الأرض بطول أكبر وأكثر احمراراً. يسمى هذا النوع من الانزياح نحو الأحمر بالانزياح الأحمر الكوني Cosmological redshift.

وإليك العلاقة بين المسافة والانزياح نحو الأحمر: كلما ابتعدت المجرّة، استغرق ضوؤها وقتاً أطول للوصول إلينا. يعني وقت السفر الأطول للضوء مزيداً من التوسع الكوني، والمزيد من تمدد الطول الموجي، ومن ثم زيادة الانزياح الأحمر. قد يؤدي انزياح دوبلر من حركة المجرّة عبر الفضاء إلى تعديل طفيف لهذا الانزياح الأحمر الكوني، ولكن هذا تأثير ضئيل للأجرام البعيدة، لذا فإن الانزياح الأحمر المرصود للمجرّة عادة ما يكون مؤشراً موثوقاً به على بعدها. لذا انسَ فكرة المجرّات التي تبتعد بعضها عن بعض عبر الفضاء، وبدلاً من ذلك تذكَّرْ أن الفضاء ذاته يتوسع، ويمط باستمرار موجات الضوء التي تنتشر عبره. 


اكتشف التلسكوب ويب الفضائي بالفعل أقدم المجرّات التي شوهدت على الإطلاق، مثل GLASS-z13 (في الأعلى)، على بعد 13.4 بليون سنة ضوئية

مشهد الأشعة تحت الحمراء بالتلسكوب جيمس ويب

يمكن استخدام التلسكوبات القوية كآلات زمن تدل على الكون المبكر

كلما تعمقت بعيداً في الفضاء، كنت تنظر وراءً بالزمن الذي تراه. أبعد المجرّات التي رصدت على الإطلاق هي بعيدة جداً إلى درجة أن ضوءَها مع أنه يتحرك بسرعة مذهلة تبلغ 300,000 كم/الثانية قد استغرق أكثر من 13 بليون سنة للوصول إلى الأرض، مما يعني أننا نراها كما كانت في أيام طفولة الكون.

في ذلك الوقت أطلقت النجوم الأولى كميات هائلة من الضوء فوق البنفسجي النشط، بأطوال موجية نموذجية تبلغ بضع مئات من النانومتر. ولكن بفعل وقت السفر الطويل للضوء والانزياح الكوني الكبير نحو الأحمر، فإن هذه الموجات الضوئية عالية الطاقة تتعرض لانزياح أحمر على امتداد طريقها إلى جزء الأشعة تحت الحمراء من الطيف، بأطوال موجية تبلغ عدة ميكرومترات. وكان هذا هو أحد أسباب تجهيز التلسكوب جيمس ويب الفضائي بكاميرات الأشعة تحت الحمراء ومقاييس الطيف Spectrometers إنها الطريقة الوحيدة لدراسة المجرّات الأبعد والأقدم في الكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى