أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقالات الإشتراكمواضيع غلاف العدد

قريباً من الشمس

يقدم لنا كلٌّ من مسبارَي سولار أوربتر Solar Orbiter وباركر الشمسي Parker Solar Probe أقرب نظرة إلى الشمس على الإطلاق. ومع دخولهما الآن في المرحلة العلمية، تُطلعنا إيزي بارسن Ezzy Pearson على ما عرفناه بالفعل وما الذي سيصلنا لاحقاً.

على الرغم من أن النجم الموجود في قلب مجموعتنا الشمسية هو أسطع من كل شيء آخر، فإن سطوعه يتحدى محاولات فهمه بصورة أفضل: فضوؤه يعمي أي شخص ينظر إليه، في حين تحرق حرارته المركبة التي تغامر بالاقتراب كثيراً منه. ومع ذلك، فقد سمحت المراصد المتخصصة لعلماء الفلك الشمسي بالنظر إليه من بعيد على مر السنين.

غير أن لدينا الآن تلسكوبَين يمنحان رؤية قريبة المسافة من الشمس. في 26 مارس 2022 أبحر مسبار سولار أوربتر التابع لوكالة الفضاء الأوروبية ESA قرب الشمس في أقرب دنو له منها حتى الآن، بوصوله إلى مسافة منها تعادل ثلث المسافة بين الأرض والشمس. وفي العام الماضي، مر مسبار باركر الشمسي، التابع لوكالة ناسا، بالقرب من الشمس إلى درجة أنه حلَّق عبر الطبقات الخارجية لغلافها الغازي، وتنَشَّق الجسيمات الأصلية القريبة من سطحها. وعلى الرغم من دنوهما من الشمس أكثر من أي مسبار آخر، فإنهما ينظران إليها بطريقتين مختلفتين تماماً.

فقاعة بلازما كبيرة
يقول دانييل مولر Daniel Müller، وهو عالم مشروع مسبار سولار أوربتر في وكالة الفضاء الأوروبية: “سولار أوربتر هو مهمة لاستكشاف الشمس وغلافها الشمسي المحيط بها- فقاعة البلازما الكبيرة التي تطلقها الريح الشمسية في فضاء ما بين النجوم. الدافع المحرك لمهمة سولار أوربتر هو إنشاء الروابط بين ما يفعله نجمنا من حيث النشاط، وكيف يتجلى ذلك في الغلاف الشمسي المحيط، بما في ذلك البيئة القريبة من الأرض. نحن ندمج قياسات البلازما في موقع المركبة الفضائية مع صور الشمس”.

انطلقت البعثة في يوم 10 فبراير 2020، وقضت العامين الماضيين تدور حول نجمنا. يُمضي المسبار معظم مداره على مسافة معينة ليحمي ذاته من الحرارة الشديدة للشمس، وينقض مقترباً منها فقط كل خمسة إلى ستة أشهر لإنجاز عبور قريب يُعرف باسم مرور الحضيض الشمسي Perihelion. وباستخدام عمليات عبور قريبة من الأرض والزهرة بهدف إزاحة مداره إلى قرب الشمس، فهو يمر الآن من مسافة 48.3 مليون كم من نجمنا.

القرب من الشمس
يمكن مشاهدة صورة الشمس الهائلة التي أنتجها مسبار سولار أوربتر، والتي تبلغ دقتُها 83 ميغابكسل

يضم مسبار سولار أوربتر 10 أدوات علمية، أربع منها تنظر مباشرة إلى الشمس. في 7 مارس 2022، عندما كان على مسافة 75 مليون كم منها، استخدمها المسبار لالتقاط أقرب صورة للشمس على الإطلاق. لقد كان قريباً جداً منها إلى درجة أن الكاميرا لم تستطع احتواء قرص الشمس كاملاً في إطار الصورة، وبدلاً من ذلك كان عليها تسجيل صورة موزاييكية لها تتكون من 25 صورة. وبفعل ذلك، صنع المسبار لقطة أكبر بـ 10 مرات مما يمكن عرضه على شاشة تلفزيون بتقنية 4K.

الأدوات الست الأخرى هي تجارب مكانية، تدرس البيئة في موقع سولار أوربتر. أحد المجالات المعينة التي يهتم بها المسبار هو الرياح الشمسية Solar Wind، التي يتشمم هبات جسيماتها المشحونة في أثناء تدفقها خارجة من الشمس.

يقول مولر: ”تتكون الريح الشمسية بدرجة كبيرة من الهيدروجين والهيليوم، ولكن هناك حفنة عناصر أخرى، وتلك هي التي تساعدنا على الربط بين الرياح الشمسية ومن أين أتت. نحدِّد مكان وجود الأيونات مثل الأكسجين والحديد، على الشمس، ثم نفحصها في الريح الشمسية. ثم ندمج القياسات والصور ونصل بين الاثنين، ونربط ما يعبر قرب المسبار بما اندلع على الشمس قبل يوم أو يومين“.

وعلى الرغم من أن مهمة المركبة، ومتى تقترب من الشمس، يجري التخطيط لها مسبقاً بوقت كافٍ، فإن المسبار في أثناء هذه التحليقات سيضبط تركيزه على أي منطقة هي نشطة حالياً على الشمس.

يقول مولر: ”في شهر مارس، مررنا بفترات مثيرة للاهتمام حيث اندلعت ألسنة شواظ كبيرة. وكان السؤال: هل نستطيع فقط تحديد مكان صدور شواظ اللهب، حيث يوجد احتمال كبير بأن ينبثق مرة أخرى. نأمل أن تتعاون الشمس معنا“.

تحليق إلى القطبين
سيستغرق الأمر بعض الوقت حتى نعرف ما إذا كانت الشمس تتعاون مع فريق سولار أوربتر، نظراً إلى أن عملية العبور قد أنتجت كثيراً من البيانات التي أنهينا تنزيلها فقط في مايو، وما زالت في قيد المعالجة.

القرب من الشمس

القرب من الشمس
لكلٍّ من المسبارين، سولار أوربتر وباركر، مدار لامركزي، يستفيد من جاذبية كوكب الزهرة للانتقال إلى مواقع جديدة

ستتابع المركبة دورانها الالتفافي حول الشمس، بإنجاز مزيد من عمليات اللقاء مع كوكب الزهرة لتغيير مدارها بحيث تصل في النهاية إلى مسافة بحدود 0.28 وحدة فلكية (تقريباً 42 مليون كم) من سطح الشمس. ولن تستريح هناك فترة طويلة، حيث ستدخل بعد ذلك في مرحلة علمية جديدة عندما تغيِّر مدارها خارج خط دائرة البروج Ecliptic، مما يسمح لها بالحصول على رؤية أوضح لقطبي الشمس- وهو شيء لم يسبق أن فعلته أي مركبة فضائية أخرى من قبل.

من المقرر أن يكون العبور القطبي الأول في شهر مارس 2025، بزاوية 17° على دائرة البروج Ecliptic، ولكن بحلول شهر يوليو 2029، يجب أن يكون العبور بزاوية 33°. والأمل هو أن يعطينا هذا المشهد الفريد على الشمس نظرة ثاقبة أكثر عن الدورة الشمسية، ذلك النمط المتكرر لنشاطها الذي يصل فيه عدد البقع الشمسية إلى ذروته ثم يهدأ، ليبلغ ذروته مرة أخرى بعد 11 عاماً من الذروة الأخيرة. وعلى الرغم من مضي أكثر من 400 عام على تسجيل هذا النمط من النشاط، فلا أحد يعرف سببه.

يقول مولر: ”ليس من الواضح سبب التواتر الدوري على مدى 11 عاماً- فالنجوم الأخرى لها فترات مختلفة. هناك كثير من النظريات، ولكن لا يمكننا التحقق منها إلّا بالحصول على بيانات من المناطق القطبية- نحتاج إلى دراسة من أعلى القطبين لنرى كيف يتغير المجال المغناطيسي وكيف ينقل. هذا هو الهدف الكبير التالي“.

ومع ذلك فإن سولار أوربتر ليست المهمة الوحيدة التي تشعر بحرارة الشمس، إذ يغوص مسبار باركر الشمسي التابع لوكالة ناسا بالقرب من الشمس. وإذا كان سولار أوربتر قد اقترب من الشمس، فإن مسبار باركر يحتك بها مباشرة. وقبل شهر واحد فقط من أقرب دنو لـ سولار أوربتر، أنجز مسبار باركر رحلته الرقم 11 إلى الحضيض الشمسي، مقترباً إلى مسافة 5.3 مليون كم فقط من الغلاف الضوئي Photosphere للشمس- وهي طبقة ”سطح“ الشمس، التي تبعث الضوء الذي نراه. إن هذا قريب جداً إلى درجة أن المسبار يمر فعلاً عبر الطبقة الخارجية للغلاف الغازي للشمس، وهي الهالة الشمسية Corona.

يقول مولر: ”يأخذ باركر نفَساً عميقاً وينطلق باتجاه الشمس، ونأمل أن يخرج سالماً لنحصل على بياناته“. في 28 إبريل 2021، على مسافة 18.8 نصف قطر شمسي (13 مليون كم)، قاس باركر أنه قد تجاوز سطح ألففين Alfvén الحرج- وهو النقطة التي تهرب فيها الجسيمات الشمسية من مجال الشمس المغناطيسي وتصير جزءاً من الريح الشمسية. كانت هذه المرة الأولى التي ”لمس“ فيها باركر الشمس ودخل هالتها. ومع كل عبور تالٍ، يطير باركر عبر الهالة، ليستطيع قياس الجسيمات والمجالات المغناطيسية الأقرب إلى الشمس.

الهدف من هذا الغوص العميق هو فهم العلاقة بين الهالة والريح الشمسية. ومع ذلك فإن الاقتراب الشديد يعني أن على باركر تحمُّلَ حرارة الشمس الشديدة وضوئها. وبينما تحافظ الدرع الحرارية المصنوعة من مركبات كربونية على أدوات المسبار في درجة حرارة الغرفة، فهي لا تستطيع فعل شيء إزاء سطوع الشمس.

يقول مولر: ”لا يستطيع باركر النظر إلى الشمس مباشرة. إنه يحتوي فقط على كاميرا موجهة جانباً، يمكنها أن تنظر من دون أن تحترق“.

صور الريح
الكاميرا المعنية هي أداة تصوير المجال الواسع لمسبار باركر الشمسي (اختصاراً WISPR)، التي تصور الريح الشمسية وهي تعصف قرب المسبار. تُظهر هذه الصور أنماط الجسيمات الساطعة المعروفة باسم تيارات التدفق Streamers التي تتدفق عبر كل أنحاء الهالة، وتساعد على تكوين صورة لما تبدو عليه الرياح من الداخل. يعني المدار القريب جداً أيضاً أن باركر يمكنه حمل ثلاث أدوات أخرى فقط لقياس الجسيمات والمجال المغناطيسي من حوله. ولكن حتى مع ترسانته المحدودة من المعدات، فقد تمكن باركر من تحقيق بعض الاكتشافات المثيرة.

في العام 2019، عندما كان المسبار لا يزال على مسافة 34 نصف قطر شمسي، رصد باركر مسارات متعرجة غريبة من الجسيمات المشحونة التي تعرف باسم المتعرِّجات Switchbacks.

اكتشف مسبار باركر الشمسي المتعرجات Switchbacks، تلك التقلبات السريعة في المجال المغناطيسي للشمس

يقول نور الدين روافي Nour Raouafi، عالم مشروع مسبار باركر: ”المتعرِّجات هي انعكاس للمجال المغناطيسي. سينقلب المجال المغناطيسي على نفسه داخلاً وخارجاً في غضون ثوانٍ أو دقائق“. شوهدت المتعرجات أول مرة في عقد التسعينات، باستخدام مركبة الفضاء أوليس Ulysses التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، ولكن بعد أن رصدها باركر الآن قرب الشمس، فقد اكتشف أنها أكثر شيوعاً بكثير مما ظهر أول مرة. كان باركر قادراً على قياس أن هذه المتعرجات غنية بالهيليوم، الذي يمكن تتبعه إلى أقماع مغناطيسية في قاعدة الهالة.

يُعد فهم الظواهر مثل المتعرجات أمراً حيوياً لتفسير أحد أكبر الأسئلة المحيطة بالشمس، والتي يأمل باركر الإجابة عنها. وبينما يقاس سطح نجمنا عند درجة حرارة معتدلة تبلغ 5,500°س، تصل حرارة الهالة إلى نحو مليون درجة سيليزية، دون أن يعرف أحد السبب. تقول إحدى النظريات أن نفثات الجسيمات السريعة، مثل التي تظهر في المتعرجات، يمكن أن تكون مسؤولة عن ذلك.

أعطى مسبار باركر أولَ مشاهد قريبة من التيارات الشمسية، وهي نفاثات من جسيمات ساطعة داخل الهالة


تقول كيلي كوريك Kelly Korreck، عالمة برنامج الفيزياء الشمسية في وكالة ناسا: ”هناك مجموعة متنوعة من النظريات. ومع حصولنا على مزيد ومزيد من البيانات لاختبار هذه النظريات، فإننا نقترب أكثر من كشف حقيقة المتعرجات ودورها في الرياح الشمسية“.

انبعاث كتلي إكليلي كما رصده مسبار SOHO. سيحاول مسبار باركر الشمسي التحليق عبر أحدها لدراسة تسارعه

وتماماً مثل سولار أوربتر، ما زال مسبار باركر يقترب من مداره النهائي، إذ جرى التخطيط لعمليتي عبور أخريين قرب كوكب الزهرة للمساعدة في الوصول إلى مداره بحلول ديسمبر 2024، بحيث يمكنه التحليق على مسافة 6.2 مليون كم من الشمس بسرعة 690,000 كم/ساعة. لكن الجزء الأكثر إثارة من مهمته سيأتي في وقت لن يتمكن أحد من التنبؤ به.

يقول روافي: ”أحد الأشياء التي نتطلع إليها هو عندما يطير مسبار باركر عبر أحد الانبعاثات الكتلية الإكليلية بالقرب من الشمس، ويخبرنا كيف يجري تعجيل Accelerate الجسيمات الشمسية النشطة إلى سرعة الضوء تقريباً“.

مستنشقات البلازما
سيستمر المسباران في تنفيذ مراحل عملهما العلمية مع اقترابهما من الشمس، وسيزداد مردودهما تماماً نظراً إلى قدرتهما الآن على التعاون معاً. وبينما يلقي باركر نظرة مباشرة على ما يحدث بالقرب من سطحه، متشمماً الرياح الشمسية والبلازما، يمكن لـ سولار أوربتر إلقاء نظرة أوسع على ما يجري هناك. وفي الوقت ذاته، ستكون المراصد الشمسية على الأرض والأقرب إلى مدار الأرض قادرة على النظر إلى الشمس بكاملها، مما يمنحنا رؤية شاملة.

من المؤكد أنه لن يكون هناك نقص في الأشياء التي يجب النظر إليها في السنوات المقبلة، إذ يُتوقَّع أن تصل الدورة الشمسية الحالية إلى ذروتها بين نوفمبر 2024 ومارس 2026. ومع تزايد عدد البقع الشمسية والتوهجات والانبعاثات الكتلية الإكليلية، لتحدث عاصفة من طقس الفضاء، سيراقب جميع راصدي الشمس في العالم باهتمام، في محاولة لاكتشاف ما الذي يجعل الرياح الشمسية تهب. 


د. إيزي بارسن Ezzy Pearson:
محررة الأخبار في مجلة سماء الليل BBC Sky at Night Magazine. كتابها آلات في الفضاء Robots in Space متاح عبر موقع History Press

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى