أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقالات الإشتراكمواضيع غلاف العدد

من الجسيمات إلى الفراسخ

توبي فريند يتأمل كيف أن تطور علم الفلك والكونيات على أكبر المقاييس، وعلم فيزياء الجسيمات على أصغرها، كثيراً ما كان متشابكاً

يُمكن للفيزياء أن تبدو، للنظرة العجولة، تخصصاً غير محدَّد التركيز. إذ ستجد في قسم بحثي واحد علماء فيزياء الجسيمات Particle physics يدرسون أصغر الأجسام التي نعرفها وأكثرها انتشاراً، مثل الكواركات Quarks واللبتونات Leptons والبوزونات Bosons. لكنك ستجد أيضاً علماء الفلك (بمن في ذلك علماءُ الفيزياء الفلكية وعلماء الكوزمولوجيا (الكونيات)) يبحثون في أكبر وأبعد الأشياء التي نعرفها، مثل المجرّات Galaxies والسُّدم Nebulae والثقوب السوداء Black holes. وليس هناك علم آخر يشارف مثل هذا التنوُّع في الاهتمامات العلمية عبر مثل هذا المجال الواسع من المقاييس. فلماذا يقع هذان الطرفان الأقصيان ضِمْن اختصاص عمل الفيزياء؟

أحد الافتراضات هو أن علماء الفيزياء مهتمون بالصغير والكبير، والقريب والبعيد، فقط لأنهم يهتمون بكل شيء. هذا هو على الأقل ما قد يخبرك به عديد من الفيزيائيين الذين يحاولون إيجاد ‘نظرية موحدة كبيرة لكل شيء’ Theory of everything. غير أن مفهوم ‘كل شيء’ في هذا السياق لا يمكن أن يعني حقاً كل شيء ربما نرغب في نظرية علمية جامعة له. فلا يطمح الفيزيائيون، على سبيل المثال، إلى وضع نظرية لمجموعات الحُمُر الوحشية Zebra في محمية سيرينغيتي Serengeti، أو لطبقات الصخور في متنزه غراند كانيون Grand Canyon؛ فهذه الظواهر هي من اختصاص علمي الإيكولوجيا والجيولوجيا، وليس الفيزياء.

جسيمات الفضاء
أعطت خريطة تيكو (تيخو) براهي السماوية، المصورة هنا في نقش من العام 1660، نموذجاً لكون مركزه الشمس

إن بحث الفيزيائيين عن نظرية لكل شيء هو في الحقيقة بحثٌ عن نظرية لسلوك مكونات كل شيء. يفسِّر هذا الأمرَ الاهتمامُ المستمر لعلماء الفيزياء بالأشياء الأصغر فالأصغر، ولكن لماذا تظل الكواكب والنجوم موضع اهتمام؟ السبب، كما أقترح، هو أن البحث في الأشياء الكبيرة والبعيدة غالباً ما يكون مفيداً لقدرتنا على وضع النظريات حول الأشياء الصغيرة القريبة، والعكس صحيح.

جسيمات الفضاء
مهد نيوتن: بتنقيح قوانين الحركة الكونية، استطاع إسحق نيوتن أن يطبقها على الأجرام السماوية وكذلك على بندول الساعة

تقسيمٌ للعمل

لكن، لم يكن الأمر كذلك دائماً، إذ كان علم الفلك ذات حين منفصلاً تماماً عن مراسيم أولئك الأكثر علما حول طرق عمل الأشياء على الأرض. بالنسبة إلى السومريين الأوائل وشعوب بلاد ما بين النهرين، كان هناك معنى في مثل هذا التقسيم للعمل: ففي حين كانت الأرض مأهولة بالحيوانات الوحشية وبالبشر الخطائين، كانت السماء مخصصة للآلهة. وفي وقت لاحق تحدثت الأساطير اليونانية عن هواء خاص، أو “أثير” Aether، تتنفسه الآلهة في عالمها السماوي، ولكنه بعيد المنال عن بقيتنا. وجدت هذه المادة الفريدة طريقها في النهاية إلى تصوُّر حقيقي على يد أرسطو، الذي افترض وجود عنصر خامس يتباين عن المواد التي نألفها أكثر مثل التراب والهواء والنار والماء. وكان من المهم بالنسبة إلى أرسطو، أن هذا العنصر الخامس لم يُطِع قوانين الحركة ذاتها، مثل الأشياء المادية التي يمكننا التعامل معها مباشرة.

وما كان لفيزيائيي الجسيمات وعلماء الفلك أن يكونوا في مكاتب في الممرات نفسها لو كان كل ذلك صحيحاً. لكن الأمور تغيرت. وتاريخ كيفية إخضاع حركات الكواكب لمجال تأثير القوانين الميكانيكية الأرضية هو بحق أحد أكثر الإنجازات شهرةً في العلم. جاءت الخطوة الرئيسة الأولى من المخططات الفلكية الدقيقة لتيكو (تيخو) براهي Tycho Brahe. وحفزت هذه مُساعدَ براهي، يوهانس كيبلر Johannes Kepler، على التشكيك علناً في كمال العالم السماوي باقتراح أن الكواكب- بما في ذلك الأرض ذاتها- إنما تتحرك في مسارات بيضاوية حول الشمس.

وبفضل تأثير بعض الأرصاد الفلكية الأدق، وجد نيوتن Newton أنه من الممكن ترويض حركات الأجرام السماوية باستخدام قوانين تطبق بالتساوي على مسارات الأجسام العادية، مثل قذيفة المدفع وبندول الساعة.

ولأول مرة صارت لدينا نظريةٌ كميةٌ Quantitative theory واحدة يمكنها أن تصف حركات ما هو كبير وبعيد جداً، وكذلك ما هو صغير وقريب جداً. وكما يحب الفلاسفة أن ينوِّهوا، فهذه القدرة الموّحِدة لنظرية نيوتن جعلتها أكثر قابلية للتصديق.

كان أهمُّ إنجاز لنيوتن في توحيد النظريات ذلك الخاصَّ بالحركة، أو ‘ميكانيكا’، الأجسام المادية. لكن الفيزياء حالياً لا تهتم فقط بكيفية تحرُّك الأشياء. إنها تهتم أيضاً بسلوك الضوء، والحفاظ على الطاقة، ومصادر القوة، والمكونات الأساسية للمادة، وبنية المكان والزمن. وبطريقة أو بأخرى، فقد تأثَّر علم الفلك بكل هذه الحقول وأثَّر فيها.

انظر، على سبيل المثال، إلى ولادة الفيزياء الفلكية Astrophysics. فبعد نحو 200 عام من ظهور ميكانيكا نيوتن على الساحة، شاع التكهُّن على نطاق واسع بين العلماء بأن الكواكب والنجوم قد لا تتحرك فقط مثل الأشياء هنا على الأرض، بل إنها قد تتكون من مادة مماثلة أيضاً. واستُخلص ذلك من حقيقة أن طيف الضوء الذي تطلقه الشمس يفتقر إلى أطوال موجية معينة- الخطوط التي تُسمى بـ”خطوط فراونهوفر“ Fraunhofer lines. ومن الغريب أن عديداً من هذه النواقص في الطيف قد توافقت مع الأطوال الموجية التي تمتصها وتشعها غازات معروفة عند تسخينها على شعلة موقد بنزن Bunsen في مختبرات العلماء. وعلى وجه الخصوص، بدا واضحاً غياب خطوط الهيدروجين والصوديوم من طيف ضوء الشمس. وباستخدام التقنيات المطورة حديثاً في التحليل الطيفي Analytical spectroscopy التي طورها روبرت بنزن Robert Bunsen، اعتقد غوستاف كيرشوف Gustav Kirchhoff أن هذه العناصر يجب أن توجد كغاز على السطح الخارجي للشمس، وأنها تمتص الأطوال الموجية ذات الصلة من الانبعاثات الأكثر سخونة في باطن الشمس.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يمكن فيها تصوُّر تكوين جرم سماوي من حيث المواد المعروفة لدينا هنا على الأرض. ومع ذلك فإن هذا لم يمنع علماء الفلك من اقتراح أن الشمس ربما لا تزال تحوي بعض المكونات الأخرى غير المعروفة. في أعقاب حادثة كسوف الشمس في العام 1868، توصل عالما الفلك بيير يانسن Pierre Janssen ‎ ونورمان لوكير Norman Lockyer، كلٌّ على نحو مستقل، إلى أن أطوالاً موجية معينة من الضوء تشعها الشمس لم ترصد حتى حينه من أي مواد أرضية معروفة. اقترح لوكير على الفور عنصراً جديداً يجب العثور عليه فقط خارج الأرض، وأطلق عليه اسم “الهليوم” Helium، المستمد من كلمة “هيليوس” Helios‎ اليونانية والتي تعني الشمس. ولكن بحلول ذلك الوقت لم يعد مقبولاً اقتراحُ وجود فجوة كبيرة بين فيزياء الأرض وفيزياء النجوم‏. وكان وجود الهليوم ذي المصدر الفضائي أو عدم وجوده أمراً مثيراً للجدل إلى حدٍّ ما.


جسيمات الفضاء
في البداية، رُفضت النتائج التي توصلت إليها سيسيليا باين -غابوشكين عن الخطوط الطيفية للنجوم

أوراق اعتماد نجم

ساعدت عالمةُ فلك أمريكية من أصل بريطاني على الكشف عن مكونات بنية النجوم

صار الإجماع على تشارُك الشمس والنجوم في تكوينٍ مماثل لتكوين الأرض أمراً راسخاً بقوة في علم الفلك إلى درجة يصعب معها التغلب عليه. في العام 1925، قدمت سيسيليا باين -غابوشكين Cecilia Payne-Gaposchkin أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه، التي افترضت فيها أن كميات الهيدروجين والهليوم في الشمس والنجوم المتغيرة كانت أكثر وفرة بقدر ملحوظ من تلك الموجودة على الأرض. أظهرت النتائج التي توصلت إليها أن الهيدروجين على وجه الخصوص كان هو، إلى حد بعيد، العنصر المعروف السائد في الكون. استخدم عرضُها معادلةً اشتقها حديثاً في حينه ميغناد ساها Meghnad Saha لإظهار أن كثيراً من التباين في الخطوط الطيفية من النجوم يمكن أن يُعزَى إلى حرارتها بدلاً من تكوينها. وفي ذلك الوقت رفض علماء فلك بارزون، مثل هوارد نوريس راسل ‏Howard Norris Russell، استنتاجَها هذا لتناقضه مع المعرفة السائدة. ومع ذلك فقد استغرق الأمر سنوات فقط قبل إثبات صحة افتراضات باين -غابوشكين، ولقِيت أطروحتُها الترحيب لنيل الدكتوراه بها بصفتها “الأطروحة الأكثر تميزاً.. التي كُتبت على الإطلاق في علوم الفلك”. وقد تابعت باين أبحاثَها لتصير أول امرأة تحصل على جائزة هنري نوريس راسل من الجمعية الفلكية الأمريكية في العام 1976.


الهليوم يتبوأ مكانه

هكذا استُبعد الهليوم من الجداول الدورية Periodic tables المبكرة للعناصر. ولم يُنظَر في ضرورة إدراج العنصر نظرياً إلّا عقب اكتشافه على الأرض أخيراً بعد نحو 27 عاماً. ومع ذلك لم يكن هذا بالأمر السهل، لأن الجدول الدوري للعناصر كان منظماً إلى حد كبير وفقاً لتفاعل العناصر، ولم يبدُ أن الهليوم كان يتفاعل مع كثير منها. لذا كان الحل هو اقتراح مجموعة ثامنة من العناصر هي “الغازات النبيلة” Noble gases، التي يقبع فيها الهليوم في موقع الصدارة. ومن المثير للإعجاب أن مادةً اكتُشِفت أولَ مرة بعيداً في السماء صارت الآن في مقدمة توجيه علم البيئة المحلية.

بعد اكتشاف الهليوم على الأرض، صار لدينا سبب منطقي أقوى للاعتقاد باحتمال أن تكون بنية المادة السماوية من نوع مماثل لبنية المادة الأرضية. وبدأت الفيزياء كما نعرفها حالياً تترسخ، ومعها إجماع متزايد مع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر على أن مجموعة صغيرة من القوانين الفيزيائية قد تصف كل ظواهر الكون. ونتيجةً لذلك صار من المقبول تماماً استخدام نظريات عن جسيمات تحت (دون) ذرية Subatomic particles لدعم نظرياتنا الفلكية، وبالعكس.

جسيمات الفضاء
تُعطي ‘خطوط فراونهوفر’، الموضحة هنا كخطوط سوداء على الطيف الشمسي، أدلة للعلماء على امتصاص الضوء بفعل عناصر كيميائية

”كان أحدُ أكبر التطورات في علم الفلك هو اكتشافَ أنواع جديدة من الأجرام السماوية“

اكتشاف أجسام جديدة

كان أحد أكبر التطورات في علم الفلك منذ ذلك الحين هو اكتشاف أنواع جديدة من الأجسام السماوية. النجوم النيوترونية E والثقوب السوداء هي أكثف الأجرام في الكون، ولها تأثير هائل في السُّدُم المحيطة بها. أما فرضية وجودها فقد جاءت من تطوير نظريات مصممة لسبر أصغر الأشياء التي يعرفها العلم.

جسيمات الفضاء
بدأت فرضية وجود الثقوب السوداء بنظريات صُممت لسبر أصغر الأشياء المعروفة للعلم

تنبأت نظرية الكمّ Quantum theory الجديدة، التي طُوِّرت في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، بأن الإلكترونات يمكنها فقط أن تشغل بعض حالات الطاقة Energy states المنفصلة والمتميزة في الذرة. هذا يعني أنه عند تعبئة وحشد مجموعة من الجسيمات بكثافة، فإنها ستقاوم مزيداً من التعبئة من خلال توجيه بعض الجسيمات للدخول في حالات طاقة أعلى. تكون المادة الناتجة ساخنة جداً وكثيفة جداً، ولكن يمكن صنع شيء أكثف من ذلك إذا كانت قوى الجذب بين الجسيمات ساحقة.

ومع ذلك لن يكون ممكناً ببساطة لأي مجموعة من الجسيمات أن تحظى بقوى جذب كافية. إذ سرعان ما أدرك العلماء أنه إذا كانت بعض النجوم ضخمة بما يكفي (بنحو خاص، أعلى من حد تشاندراسيكار Chandrasekhar limit بقدر 1.4 كتلة شمسية تقريباً، وهي الكتلة الأكبر نظرياً لنجم قزم أبيض White dwarf مستقر) فإن قوى جاذبيتها ستكون كافية لإحداث مزيد من الانهيار. وإضافةً إلى ذلك، اعتماداً على مدى ضخامة كتلة مثل هذا النجم بعد انفجاره في سوبرنوفا (مستعر أعظم) Supernova، يمكن لانهياره الجاذبي المتواصل إلى حالة أكثف أن ينتج نجماً نيوترونياً (بما في ذلك البُلسارات (النجوم النبّاضة) Pulsar والمغناطيسية Magnetars) أو حتى ثقب أسود، لا يمكن لشيءــ حتى الضوء أن يفلت منه. كان هذا الجسم الأخير فكرة مثيرة للجدل، لكن الفلكيين كانوا واثقين بأن ميكانيكا الكم الجديدة ستطبَّق على مقاييس كبيرة بما يكفي للتحقق من صحة التنبؤ. وبنتيجة ذلك صارت النجوم النيوترونية والثقوب السوداء معالمَ مألوفة في الوقت الحالي للأرصاد الفلكية.


يقيس المُسعِّر Calorimeter تجربة أطلس ATLAS (في المركز) طاقة الجسيمات الناتجة من تصادم البروتونات

إنتاج الجسيمات

تُعيد مسرِّعات الجسيمات إنتاجَ بيئات الكون شديدة التطرف

لا يقتصر عمل الفيزيائيين فقط على جمع البيانات من النجوم. إذ تتميز مسرِّعات (معجِّلات) الجسيمات Particle accelerators أيضاً بدورها الكبير في التجارب الحديثة. وهي غالباً ما يكون لها شكل حلقي Toroidal shape، تدور فيها الجسيمات مراراً وتكراراً، مما يرفع من طاقتها في أثناء حركتها. تطوَّر أقدمُ مثال على مثل هذا المُسرِّع في العام 1930 على يد إرنست لورانس Ernest Lawrence وكان بحجم 5 بوصات (12.7 سم) فقط، في حين يبلغ قطر أكبرها حالياً أكثر من 5 أميال (8 كم)!

بربط الكاشفات Detectors في نقاط مختلفة، يستطيع الفيزيائيون رصد الأحداث الفيزيائية عند طاقات فائقة. وفي التاريخ الحديث تميزت بعض هذه التجارب. إذ تتضمن تجربة أطلس ATLAS في مصادم الهادرونات الكبير Large Hadron Collider في سويسرا أكبر كاشف جسيمات على الإطلاق، وهو أسطوانة يبلغ طولها 46 م وقطرُها 25 م، وتحتوي على 100 مليون أداة استشعار. في العام 2012، كانت تجربة ATLAS مفتاحاً لتأكيد وجود حقل هيغز Higgs field، الذي يُعتقد أنه يساعد على منح الجزيئات بعضَ كتلتها. وقد فعلت ذلك بكشفها للجسيم المرتبط بهذا المجال: بوزون هيغز Higgs boson. أضاف هذا الاكتشاف مزيداً من الإثبات للنموذج القياسي (وهو النظرية الافتراضية للفيزيائيين عن الفيزياء الأساسية).

غير أن سلسلة أخرى من التجارب فعلت العكس. في العام 2001، تمكن فيزيائيو مسرِّع مختبر بروكهيفين الوطني Brookhaven National Laboratory من سحب حزمة من الميونات Muons ‎ (تشبه إلى حد ما إلكترونات ضخمة) في حلقة مغناطيسية بأمل إنشاء ما يسمى بالقيمة ‘g’. أشارت نتائجهم، التي جرى تأكيدها في مسرِّع فيرميلاب Fermilab في العام 2019، إلى أن القيمة ‘g’ لم تكن هي ما تنبأ به النموذج القياسي. ولكن نظراً إلى أن النتائج لم تكن ذات أهمية إحصائية Statistically significant كما رغبوا، فإن الفيزيائيين يمتنعون عن قول ما إذا كانت تشير إلى نظرية جديدة.


أعطت نظرياتُ الجسيمات علماءَ الفلك الأدواتِ اللازمة لشرح ما يحدث للنجوم بعد تفجُّرها في سوبرنوفا

كما امتدت أيضاً التفسيرات النظرية المهمة من المقياس الكبير إلى الصغير. ربما يأتي المثال الأكثر إثارة للإعجاب على أرصاد لعلماء الفلك أظهرت أن سرعات النجوم في مجرَّة درب التبانة (وفي مجرّات أخرى كما تبين) لا يمكن تفسيرها إلّا ضِمن قوانين الجاذبية المعروفة إلا إذا كان جزء كبير من تلك المادة مُخفًى عن الرؤية. تتحدى ”المادة المعتمة“ Dark matter، كما صارت تُعرَف، حتى أحدث وأقوى فئاتنا التصنيفية للجسيمات تحت الذرية.

(انظر الصفحة 38 لمزيد من المعلومات عن كيفية تطوير نظريات المادة المعتمة). يواصل الفيزيائيون مناقشة مجموعة واسعة من الاحتمالات لكيفية ظهورها. أحد الاقتراحات هو أن المادة المعتمة تتكون من جزيئات ضخمة ضعيفة التفاعل (اختصاراً: الجسيمات WIMPs). والسبب الآخر هو أنها تتكون من آكسيونات Axions، وهي جسيمات افتراضية منخفضة الكتلة. وفي كلتا الحالتين، يبدو من غير المرجح أن تظهر المادة المعتمة في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات Standard Model of particle physics. ومع ذلك فإننا نشك بقوة في وجود مثل هذه المادة. وهنا، إذن، لدينا حالة دفعتنا فيها الأرصاد الفلكية إلى الاعتقاد بأن نظرياتنا عن المكونات الأساسية للمادة هي في حاجة إلى مراجعة.

المعرفة المشتركة

تشرح الرؤى التي قدمتها فيزياء الجسيمات وعلم الفلك كلٌّ منهما إلى الآخر لماذا يمكن للممارسين في كلا الحقلين توقُّع التقائهما عند مبرِّد الماء ذاته (وتبادل النقاش). وبالفعل إن كثيراً من علماء الفيزياء هم حالياً على دراية جيدة في كلا الحقلين. وكما يشرح الفيزيائي إيه رافي راو A Ravi P Rau: ”هناك اقتران قوي بين موضوعات علم الفلك والفيزياء الذرية والجزيئية“. من المؤكد أن راو مُحق عندما يوضح أن هذا يرجع جزئياً إلى حقيقة أن ”معرفتنا بالعالم الفلكي مشتقة من انبعاث وامتصاص وتشتُّت الإشعاع الكهرومغناطيسي من الذرات والجزيئات. نحن ’نلمس‘ ونميِّز المحتوى المادي لهذه الأجرام البعيدة فقط من خلال عمليات الامتصاص والانبعاثات هذه“. لكن اقتران علم الفلك والفيزياء الذرية يرجع أيضاً إلى حقيقة أن الأحداث الفلكية توفر ظروفاً قاسية للذرات والجزيئات، والتي من دونها ربما لم نكن لنتعلم فيزياء جديدة عما يحدث هنا على الأرض. 


توبي فريند Toby Friend:

فيلسوف في جامعة بريستول. يبحث حالياً في مشروع بعنوان الوحدة الميتافيزيقية للعلوم The Metaphysical Unity of Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى