أبــــولــــــو 15
في الذكرى السنوية الخمسين لبعثة أبولو 15، تلقي إيزي بارسن نظرة على بعثة أبولو التي وضعت العلم أولا ً وقبل كل شيء
د. إليزابيث بارسن Elizabeth Pearson:
محررة الأخبار في مجلة BBC Sky at Night. حصلت على درجة الدكتوراه في علم الفلك خارج المجرة Extragalactic astronomy من جامعة كارديف
بحلول وقت أبولو 15، كان العالم قد فقد افتتانه بالاستكشاف البشري للقمر. فقد تمكن السوفييت من إعادة عينات من تربته بطريقة آلية وإنزال جوالة روبوتية عليه في نهاية العام 1970. وإذا كانوا ينجزون العمل ذاته الذي أنجزته أبولو، ولكن بتكلفة بسيطة، فلماذا كانت ناسا لا تزال ترسل البشر إلى القمر؟
كانت ناسا تعاني بالفعل تخفيضاتٍ هائلة في الموازنة، مما أدى إلى إلغاء بعثة أبولو 18 المستقبلية. ومع بقاء ثلاث مهامَّ فقط، جعلت الوكالة من بعثة أبولو 15 الأولى ضمن مهمات “J”، حيث كان المردود العلمي للبعثة هو الأولوية.
باستهدافها سلسلة الجبال القمرية المعروفة باسم جبال الآبناين Apennines، كان يتعين على رواد بعثة أبولو 15 إنجازُ عمل جيولوجي ميداني معقد، لذلك أرسلت وكالة ناسا رواداً للمشي على سطح القمرـــ القائد ديف سكوت Dave Scott، وطيار الوحدة القمرية جيم إيروين Jim Irwinــ في رحلات ميدانية منتظمة كجزء من تدريبهم. هنا تعلموا المهارات التي سيحتاجون إليها، وخاصة إذا كانوا سيجدون العنصر الأهم في قائمة أمنيات الفريق الجيولوجي ــ صخرة أنورثوسايت Anorthosite، التي يعود تاريخها إلى أقدم عصور سطح القمر. وعلى مدى عشرات الرحلات القصيرة، فقد جرى تحويل الطيارين العسكريين إلى جيولوجيين ميدانيين متمرسين.
انطلق الطاقم من مطار كيب كينيدي في يوم 26 يوليو 1971، باتباع مسار جديد وضعهم في مدار انتظار أخفض بـ 166 كم من البعثات السابقة. كان سبب التغيير لاستيعاب وحدة قمرية أثقل، وملأى بالأدوات اللازمة للأهداف العلمية لبعثات “J”. حدد الطاقم مساراً إلى القمر، ووصل إلى المدار بعد ثلاثة أيام، ليكون جاهزاً للهبوط بالقرب من الوادي المعروف باسم هادلي ريل Hadley Rille. في يوم 30 يوليو، عبَر سكوت وإيروين إلى الوحدة القمرية، فالكون Falcon، وشرعا في عملية الهبوط.
في البداية بدت الأمور أنها تسير على ما يرام، إلى أن لاحظ سكوت أن الجانب الساطع لجبل على يساره يبدو بهيئة لم يتوقعها. بعد لحظات أفاد مركز التحكم في البعثة في هيوستن أنهم كانوا على بعد كيلومتر واحد تقريباً جنوب المكان الذي كان يفترض أن يبلغوه. ولحسن الحظ، كان بإمكانه تحديد الأرض المعتمة لوادي هادلي ريل E أثناء اجتيازه مشاهد سطح القمر، واستخدمها لتوجيه مركبة فالكون Falcon داخله لتنفيذ هبوط سلس.
الخروج إلى المنطقة المحيطة
هبطت المركبة بأمان، وحان وقت تنفيذ أول بند على جدول الأعمال ـــ ليلة راحة جيدة. ستبقى أبولو 15 على السطح فترة أطول من أي بعثة سابقة، ومن أجل تجنب “تأخر القمر” Mon-lag، سيعمل الطاقم وينام على توقيت الأرض، مما يعني أن وقت نومهم قد حان. ومع ذلك فقد فعل سكوت في البداية شيئاً سيفعله أي جيولوجي جيد ـــ استكشاف المنطقة من علٍ، وهو الفتحة العلوية للمركبة القمرية.
بعد ارتداء بدلاتهم الفضائية، أجرى سكوت أول “نشاط خارج المركبة” Extravehicular activity وقوفاً. فمسح المنطقة، وحدد السمات التي كانت سابقاً مجرد بقع ضبابية على صورة مدارية. وبعد نصف ساعة، عرض على زميله الفرصة للنظر، لكن إيروين قال لا ــ بعد أيام من حالة انعدام الوزن المربكة، فقد كان يتطلع إلى النوم تحت سلطة الجاذبية مرة أخرى.
استيقظ الثنائي في صباح اليوم التالي، ووضعا بزات الفضاء للاستعداد لأول ثلاثة أنشطة خارج المركبة. بعد خروجهم إلى سطح القمر، استقبلهم مشهد جبال الآبناين المتوهجة بلون ذهبي تحت شمس الصباح. وعلى الرغم من سنوات الإعداد والمحاكاة، لم يكن أيٌّ منهما متهيئاً لمدى إذهال مشهد سطح القمر.
قال إيروين بعد فترة وجيزة من المشي على السطح: “يا فتى، المكان جميل هنا! إنه يذكرني بوادي الشمس Sun Valley [منتجع تزلج في ولاية إيداهو Idaho]”.
بيد أنه لم يكن هناك وقت للوقوف للإعجاب بالمشهد. كان هناك عمل علمي “ثقيل” يجب إنجازه، وهذا هو السبب في أن خطوتهم الأولى كانت إخراج أحدث ابتكار في استكشاف الكواكبــ الجوّالة القمرية Lunar Rover.
ستبقى بعثة أبولو 15 فترة أطول، وتسير أبعد من أي بعثة أخرى قبلها، ولكن حتى تلك المسافات الأقصر التي سارها الرواد السابقون على سطح القمر كانت قد أرهقتهم. وتحسباً أن يكون الحال كذلك، فقد عملت وكالة ناسا على صنع مركبة جوالة قمرية Lunar Roving Vehicle كانت جاهزة أخيراً للطيران في بعثة أبولو 15.
وعلى الرغم من كونها قطعة متطورة من معدات الفضاء، فإن الجوالة القمرية بدت أشبه بعربة صغيرة مصنوعة منزلياً. الجاذبية الأقل تعني أنه يمكن أن يكون لها هيكل أخف (أقل قوة)، فيما بدت المقاعد مثل كراسيِّ حديقة، والعجلات صنعت من سلك شبكي.
وحتى عند السفر بسرعة 10 كم/س، فإن عجلات العربة ستنطلق في الهواء بعد سيرها فوق أصغر نتوء ــ وهي تجربة شبهها إيروين وهو في مقعده بامتطاء حصان جامح. ومما زاد الطين بلة أن العجلات الأمامية لم تكن تعمل، مما يعني أن سكوت لم يكن في إمكانه توجيه المركبة إلا باستخدام العجلات الخلفية في أثناء انحرافه حول الفوهات. لقد جهزت الجوالة القمرية بنظام ملاحة، حتى يتمكن من التركيز تماماً على القيادة.
توجه الرائدان إلى وادي هادلي ريل، قبل التوقف عند فوهة إلبو Elbow Crater القريبة لأخذ عينات من الصخور. وطوال الوقت كان إيروين وسكوت يلتقطان الصور ويرسلان الملاحظات إلى فرق الجيولوجيا على الأرض. هذه التفاصيل، إضافةً إلى تسجيل الفيديو من الجوالة القمرية، ستمنح العلماء خلفية مهمة يحتاجون إليها لفهم كامل لأي عينات تعاد إليهم. وبعد ست ساعات على السطح، عادوا إلى وحدة الهبوط لتناول وجبة طعام مستحقة، وللحصول على قسط جيد من الراحة في الليل.
اكتشاف تاريخي
في صباح اليوم التالي، بدأ الرائدان نشاطهما الثاني خارج المركبة مع اكتشاف أن مشكلة توجيه الجوالة القمرية قد أصلحت ذاتها. وقد أنجزت القيادة عبر المنحدرات السفلية لجبال الآبناين بسهولة، حيث تدبرت أمر السير بين التضاريس مائلةِ الزاوية والغبارِ الكثيف ببراعة أكثر مما فعل الرائدان شخصياً.
وبعد أن غرق سكوت في الغبار الكثيف، قال: “يا رجل، أنا أكره أن أضطر إلى الصعود حتى هنا. لكنك لن تصل إلى هنا مطلقاً من دون هذا الشيء”.
وقد عثرا في أثناء تنفيذ عملية الخروج من المركبة هذه على صخرة بيضاء متواضعة، أثارت حماس جيولوجيي بعثة أبولو 15 بنحو كبير.
وأرسل سكوت بإثارة إلى هيوستن: “احزروا ماذا وجدنا! أعتقد أنه ربما يكون شيئاً قريباً من الأنورثوسايت، لأنه بلوري الشكل… يا له من جمال”.
لقد كانت مجرد مثال عن قشرة القمر القديمة التي كان الفريق العلمي يأمل العثورَ عليها. وأطلق عليها لاحقاً اسم “صخرة التكوين” Genesis Rock، وتبيّن أنها تشكلت بعد 300 مليون سنة فقط من نشوء القمر وكانت واحدة من أعظم اكتشافات برنامج أبولو.
غير أن الوقت كان يمضي، والأكسجين يتناقص مع اقترابهما من “الحد الأقصى لمسافة العودة”. كانت مركبة الهبوط الآن على بعد نحو 4 كم، ولم تكن ناسا مستعدة لتخاطر بذهابهما أبعد من ذلك، حيث لن يكون لديهما ما يكفي من الأكسجين للعودة سيراً على الأقدام إذا أخفقت الجوالة القمرية. ومع محطة أخيرة لنشر مجموعة الأدوات المعروفة باسم حزمة تجربة أبولو لسطح القمر Apollo Lunar Surface Experiment Package (اختصاراً: الحزمة (ALSEP، فقد عادا بعد أن قطعا مسافة 12.5 كم
في سبع ساعات.
المشهد من الأعلى
بينما كان الرائدان يعملان على السطح، كان طيار وحدة القيادة آل ووردن Al Worden منهمكاً كذلك في مسح المشاهد الطبيعية للقمر من الأعلى في وحدة القيادة إنديفر Endeavour. وفي الأيام الثلاثة التي قضاها بمفرده، أجرى ووردن تجارب علمية على المركبة الفضائية، مثل محاولة شم الغازات التي يحتمل أن يطلقها القمر. في أثناء مروره فوق جانب القمر المضاء بالشمس، كان ووردن يصور سطحه بنحو منهجي إلى أن يعبر إلى عتمة جانبه المظلم، مما يسمح له بتأمل ورؤية العظمة الكاملة للكون. وفي وقت لاحق قال في مقابلة مع الـ BBC: “ما وجدته هو أن عدد النجوم كان هائلاً جداً. الحقيقة أنني لم أتمكن من تحديد نجوم مفردة، كان الأمر أشبه بصفحة من الضوء”.
بالعودة إلى السطح، بدأ سكوت وإيروين نشاطهما الثالث والأخير خارج المركبة، بتأخير ساعتين عن الموعد المحدد. ولكن قبل أن يتمكنا من الذهاب إلى أي مكان، كان عليهما التعامل مع ما صار عدواً لدوداً لـ سكوتـ ـ مثقاب الحفر. فعند استخدامه كانت اهتزازات المثقاب تهز يديه، في حين تصارع قفازاته المضغوطة قبضة يده عندما يحاول فتح يديه. ومما زاد الأمر سوءاً أن القفازات القصيرة كانت تحتك باستمرار بأطراف أصابع الرائدين، مما جعلهما يشعران وكأن أصابعهما قد تعرضت للضرب بمطرقة.
في أثناء عملية النشاط الثاني خارج المركبة، دفع سكوت المثقاب بنحو مؤلم إلى عمق 3 م في التربة لأخذ عينة جوفية عميقة، فقط لكي تعلق الأداة بسرعة في التربة الكثيفة. وفي هذه الأثناء احتاج سكوت وإيروين إلى 28 دقيقة ثمينة لإخراج المثقاب، واستخدما أكتافهما لرفع المقبض.
الواجبات الأخيرة
مع تثبيت وقت انطلاقهما للعودة بعد عدة ساعات فقط، عاد سكوت وإيروين إلى حافة الوادي القمري على الجوالة القمرية. وبدلاً من الانخفاض الحاد الذي توقعوه من الصور العلوية، فقد انحنى المنحدر بعيداً برفق مما سمح للرائدين بالمغامرة بالمضي خلف التلالــ ما أثار ذعر أولئك الذين على الأرض.
وسألهما مراقب البعثة جو آلين Joe Allen وهو يشاهدهما عبر كاميرا الجوالة القمرية: “بدافع الفضول فقط، على أي بُعد تقفان عن حافة الوادي الآن؟ يبدو أنكما تقفان على حافة هاوية”.
بعد جمع العينات على عجَل، عاد الرائدان إلى الوحدة القمرية وبدآ يحزمان المعدات بسرعة، مع أن سكوت وجد وقتاً لمهمتين في اللحظة الأخيرة. أولاً أخرج ريشة طائر من بدلته مع مطرقة جيولوجية. وفي إعادة تجربة شهيرة يُفترض أن غاليليو أجراها، فقد أسقط كلتيهما معاً لإظهار سقوط الأجسام بالسرعة نفسها بالضبط، بغض النظر عن الوزن.
وقال سكوت: “لا شيء يضاهي تجربة علمية صغيرة على القمر”.
وكانت المهمة الثانية مهمة حزينةــ وضع لوحة صغيرة لذكرى أولئك الذين ماتوا في محاولات نقل البشر إلى النجوم، بما في ذلك ثلاثة رواد سوفييت قضوا قبل أسابيع قليلة من إطلاق أبولو 15.
بعد بعثة شاقة انطلقت مركبة فالكون من سطح القمر، وعادت لتلتحم بوحدة إنديفر. وبأخذ قليل من الوقت للرائد ووردن ليؤدي عملية سير فضائية لاستعادة الكاميرات من فوق السطح الخارجي للمركبة، فقد حان الوقت لبدء طريق العودة إلى الوطن.
ولسوء الحظ، فبعد وقت قصير من عودة الطاقم، وقعوا في فضيحة كبيرة ــ إذ كانوا قد أخذوا معهم إلى القمر أغلفة بريدية غير مصرح بها، ثم باعوها إلى تاجر طوابع. وعندما عرفت هذه القصة، سخرت منهم الصحافة، ومنعت وكالة ناسا الرواد الثلاثة من التحليق مطلقاً مرة أخرى.
وعلى الرغم من هذه الحادثة المؤلمة، كان الإرث الحقيقي لبعثة أبولو 15 هو ثروة الاكتشافات العلمية الخارقة التي حققتها. فقد أعطت صخرة التكوين فرصة معرفة العصور الأولى للقمر، فيما كشفت العينات الجوفية للتربة التي حصلوا عليها بشق الأنفس عن 500 مليون سنة ماضية من تاريخ القمر. وفي مدة ثلاثة أيام فقط، أثبت رائدا فضاء ما يمكن إنجازه بإرسال بشر إلى سطح القمر.