اكتشاف كويكب فِستا
ربما يحمل الكويكب 4 فِستا أدلة على تاريخ المجموعة الشمسية القديم، لكن قصة اكتشافه قصة مثيرة للاهتمام بالقدر نفسه. تكشف إميلي وينتربيرن هنا عن الشرطة السماوية، وهي نخبة من علماء الفلك الباحثين عن الكواكب
إيميلي وينتربيرن Emily Winterburn: مؤلفة كتاب “الثورة الهادئة لكارولين هيرشل: البطلة الغائبة في علم الفلك The Quiet Revolution of Caroline Herschel: The Lost Heroine of Astronomy”
بلغ فِستا، أسطع كويكب في حزام كويكبات مجموعتنا الشمسية، نقطة تقابله في 4 مارس 2021. وعلى الرغم من أنه يمكن رؤية فِستا بالعين المجردة في مواقع تخلو من التلوث الضوئي، إلّا أن هذا يمثل تحدياً للراصدين. ربما يكون هذا ممكناً بفضل سطوعه البالغ mag. 5.9+، ولكن رؤيته ستكون ممكنة جدا بمنظار مزدوج أو تلسكوب متوسط الفتحة Moderate aperture.
كان فِستا واحداً من أولى الكويكبات المُكتَشفة، و كما ينبغي لكل تاريخ علمي جيد فإن قصة اكتشافه حافلة بالفشل والغيرة ونظريات لا مصداقية لها.
أما الآن، فنحن نعرف نحو مليوني كويكب في حزام الكويكبات بين كوكبي المريخ والمشتري، ولكن قبل 250 عاماً كان وجود أي شيء على الإطلاق في تلك المنطقة من السماء مجرد تكهنات. ففي عام 1766 صاغ عالم الفلك والرياضيات الألماني يوهان دانييل تيتيوس Johann Daniel Titius قانوناً رياضياتياً لشرح وتوقع التباعد بين الكواكب في المجموعة الشمسية. وهذه أول نظرية فاقدة المصداقية سنلتقي بها هنا في هذه القصة. وفقاً لقانون تيتيوس، يجب أن يجد علماء الفلك كوكباً بين المريخ والمشتري إضافة إلى كواكب أخرى أبعد مسافة نحو الخارج، ولكن لم يعثر على أي كوكب في هذه المرحلة. وعلى الرغم من نقص الدليل هذا، إلّا أن عالم الفلك الألماني يوهان إليرت بود Johann Elert Bode اعتمد قانونه وتبنّاه بعد ست سنوات من نشر تيتيوس لقانونه أول مرة. وبعد ذلك، في تاريخ 13 مارس 1781، اكتشف ويليام هيرشل William Herschel كوكب أورانوس حيث توقع القانون وجود كوكب.
تأسيس “الشرطة السماوية”
بعد هذا النجاح لما صار يعرف الآن بقانون تيتيوس بود Titius-Bode law، ازداد الاهتمام بتلك المنطقة بين المريخ والمشتري. وأخذ كل من البارون فرانز زيفر فون زاك Franz Xaver von Zach ويوهان هيرونيموس شروتر Johann Hieronymus Schröter -صاحب مرصد في ليلينثال Lilienthal بألمانيا- على عاتقهما إنشاء وتحفيز مجتمع نشط من علماء الفلك للبحث عن الكواكب المفقودة. بعد اقتراح قدمه جوزيف جيروم دي لالاند Joseph-Jérome de Lalande، شكل زاك وشروتر، جنباً إلى جنب مع كارل هاردينغ Karl Harding، وهاينريك أولبيرس Heinrich Olbers، وفريهير فون إندي Freiherr von Ende، ويوهان غيلدميستر Johann Gildemeister، مجموعة من علماء الفلك أطلقوا على أنفسهم اسم “الشرطة السماوية” Celestial Police. وكان هدفهم تنظيم وتنسيق مشروع دولي كبير للعثور على الكوكب المفقود من خلال تخصيص أقسام مختلفة من السماء لعلماء فلك مختلفين في معظم أنحاء العالم. وإجمالاً، فقد كتبوا إلى 24 من علماء الفلك في أنحاء أوروبا، يدعونهم إلى الانضمام إلى الشرطة السماوية للبحث عن هذا الجرم المفقود؛ وقد أرسلوا رسائلهم تلك في عام 1800. ففي غضون ذلك، وقبل أن يتلقى دعوته، اكتشف الكاهن الإيطالي الذي تحول إلى عالم الفلك جوزيبي بيازي Giuseppe Piazzi الكويكب سيريس Ceres في المكان المحدد الذي تنبأ به قانون تيتيوس بود وذلك بتاريخ 1 يناير 1801.
وعلى الفور، أعلن بيازي اكتشافه في رسالة إلى زميله الفلكي الإيطالي بارنابا أورياني Barnaba Oriani، مع أخذ الاحتياطات (كما فعل ويليام هيرشل من قبل) من الادعاء بأنه اكتشف مذنباً. وكان اكتشاف المذنبات بحلول عام 1801 نشاطاً فلكياً راسخاً ومحترماً، وقد بحث كثير من الناس عنها واكتشفوها. غير أن الكواكب كانت أكثر غرابة، وكان من الممكن أن يبدو مثل هذا الادعاء -إذا كان مخطئاً- غير لائقٍ. ومع ذلك، ألمح بيازي إلى شكوكه، إذ أخبر أورياني في رسالته بأنه في حين كان يعتقد أنه عثر على مذنب، إلّا أنه في الواقع “قد يكون شيئاً أفضل”. وترددت أصداء أخبار هذا الاكتشاف عبر أوروبا، ورصده علماء الفلك في معظم أنحاء القارة وعاينوه وحسبوا مداره، حتى اتفقوا في النهاية على أنه كان بالفعل كوكباً جديداً حتى وإن كان صغيراً إلى حد ما. ويمكن لبيازي الآن أن يسميه، فاختار له اسم سيريس Ceres، على اسم إلهة الزراعة الرومانية.
ويستمر البحث
ودون كلل، واصلت الشرطة السماوية بحثها على طول خط دائرة البروج Ecliptic عن أجرام مجهولة ليست بنجوم. وبعد أكثر من عام من بدئهم، اكتشف هاينريك أولبرس، وهو يراقب من الطابق العلوي لمنزله (الذي حوله إلى مرصد)، جرماً ثانياً، بالاس Pallas، بتاريخ 28 مارس 1802. وكان أولبرس في الواقع يحاول رصد المزيد من سمات سيريس للمساعدة على فهم هذا الكوكب الجديد بنحو أفضل عندما صادف بالاس. وفور تصنيفه ككوكب آخر (لم يكن مصطلح الكويكب Asteroid قيد الاستخدام بعد)، أطلق عليه أولبرس اسم بالاس، على اسم إلهة الحكمة الرومانية.
واصلت الشرطة السماوية بحثها، وهذه المرة جاء دور كارل هاردينغ للاكتشاف، إذ وجد جرماً آخر داخل حزام الكويكبات في عام 1804. وعندما اكتشف هاردينغ كويكبه، أطلق عليه اسم جونو Juno، على اسم أعلى إلهة رومانية.
بعد ثلاث سنوات، في مارس 1807، أنجز هاينريك أولبرس اكتشافه الثاني في حزام الكويكبات: فِستا Vesta. وقد اختار الاسم تماشياً مع التقليد السائد حتى الآن، باختيار اسم إلهة رومانية. فهذه المرة اختار اسم فِستا، إلهة البيت الرومانية. وبدأ بحثه عندما بدأ بافتراض أن سيريس وجونو ربما كانا شظايا من كوكب سابق. وهذه هي النظرية الثانية التي فقدت مصداقيتها الآن في هذه القصة. لاحظ أولبرس أن سيريس وجونو كانا صغيرين نوعاً ما ليكونا الكوكب الذي تنبأ به قانون تيتيوس بود. وكما اقترح في رسالة إلى كارل فريدريك غاوس Carl Friedrich Gauss في عام 1802، حيث تساءل، ماذا لو “… كان سيريس وبالاس شظايا من كوكب سابق أكبر حجماً دمره اصطدام بمذنب؟” وتابع: “هل يمكننا بعد ذلك اكتشاف المزيد من أجزاء هذا الكوكب السابق في مكانه المناسب؟” وبدا أن اكتشاف جونو يؤكد شكوكه، كما فعل اكتشافه لفِستا. (يُعتقد حاليا أن يكون حزام الكويكبات على الأرجح قطعاً من كوكب لم يتشكل قطُّ بسبب حيولة قوة جذب كوكب المشتري دون تكوينه).
في هذه الأثناء، وفي حين كانت كل هذه الاكتشافات تُنجز وتناقش في الرسائل واجتماعات الجمعية عبر أوروبا، بدأ ويليام هيرشل بالتعبير عن مخاوفه. ففي المحصلة، كان هذا أول كوكب يكتشف منذ العصور القديمة، والأول على يد مكتشف. يبدو أن هذه الموجة الصغيرة من النتائج الإضافية (في نظره) تقلل من قيمة هذا الإنجاز. وفي مقال طويل بعض الشيء في مجلة المداولات الفلسفية للجمعية الملكية Philosophical Transactions of the Royal Society (مايو 1802)، شرع بتحليل هذه الاكتشافات الجديدة، ولم يشر إليها على أنها كواكب. وأوضح في ملخصه أنها كانت أصغر من أن يطلق عليها هذا الوصف، ومن الغريب أنه فضل تسميتها بالنجوم. وفي نهاية المقال، اقترح اسماً جديداً، “الكويكبات” Asteroids، موضحاً أن “هذه الأجسام ستحتل مرتبة متوسطة بين النوعين اللذين كانا معروفين من قبل”، ويقصد بهما الكواكب والمذنبات. استغرق الأمر بعض الوقت، ولكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر صار هذا الاسم ثابتاً.
واصلت الشرطة السماوية بحثها عن الكويكبات مدة ثماني سنوات أخرى بعد اكتشاف فِستا، ولكن دون جدوى. وبحلول عام 1815، خلصوا على مضض إلى عدم وجود المزيد من الكواكب أو أجزاء منها في ذلك المكان من السماء. وبعد ذلك مرت ثلاثون سنة قبل أن يثبت كارل لودفيغ هينكي Karl Ludwig Hencke (وآخرون، في وقت مناسب) خطأهم.
ومن بين جميع الكويكبات التي اكتشفت قبل وبعد ذلك، فإن فِستا هو الأكثر سطوعاً والوحيد الذي يكفي سطوعه لرؤيته بالعين المجردة بفضل حجمه وطبيعة سطحه. وعلى مر السنين، واصل علماء الفلك دراسة هذه الكويكبات، واقتربوا بنحو مطرد من قياس خصائصها المختلفة، بما في ذلك أحجامها وكتلها. ففي ثمانينات القرن التاسع عشر، قاس إدوارد تشارلز بيكرينغ Edward Charles Pickering وفريقه في مرصد كلية هارفارد متوسطَ قطر فِستا ليجدوا أنه يبلغ 513 كم تقريباً، وجرى تنقيح هذه القياسات في ثمانينات القرن العشرين ومرة أخرى في تسعيناته، قبل أن تؤكد أخيراً بأرصاد بعثة دوون Dawn التابعة لوكالة ناسا (انظر: الإطار على الصفحة المقابلة).
في عام 1966 صار فِستا أول كويكب تحدد كتلته، من خلال رصد الاضطرابات التي تحدثها قوة جاذبيته في كويكب مجاور له هو آريت Arete. فقد درس هانز هيرتز Hans G Hertz، من مركز غودارد الفضائي Goddard Space Center التابع وكالة ناسا، الكويكب فِستا وقدر كتلته بنحو 1.2×10-10 كتلة شمسية، وهو تقدير أُعيد تدقيقه ليقترب من 1.3×10-10 كتلة شمسية بفضل أرصاد بعثة دوون.
يتمتع فِستا أيضاً بخصائص فيزيائية مثيرة للاهتمام، وقد أُعيد دراسة هذه الخصائص مرة أخرى لفهم أفضل بفضل بعثة دوون الأخيرة. فِستا هو ثاني أضخم جرم في حزام الكويكبات (بعد سيريس) وعلى سطحه فوهة بقطر 500 كم تقريباً (قطر الكويكب بكامله تقريباً). وأطلقت بعثة دوون على هذه الفوهة اسم رياسيلفيا Rheasilvia، وهو اسم والدة رومولوس Romulus وريموس Remus في الأساطير الرومانية.
كانت بعثة دوون هي نتيجة سنوات عديدة من التخطيط وسلسلة من البدايات غير الموفقة. فقد قُدِّمت اقتراحات منذ أوائل عقد ثمانينات القرن العشرين لإرسال مركبة فضائية إلى فِستا لدراسته بمزيد من التفصيل، ليس فقط من قبل وكالة ناسا، ولكن من قبل وكالة الفضاء الأوروبية والاتحاد السوفييتي أيضاً. غير أن هذه الطموحات لم تتحقق أخيراً إلا مع إطلاق بعثة دوون في عام 2007. وانطلقت البعثة لزيارة كل من كويكبي فِستا وسيريس لمعرفة المزيد عنهما وعن حزام الكويكبات وتشكيل مجموعتنا الشمسية. وفي هذه العملية استطاع العلماء تأكيد أو تحسين الدراسات السابقة عن الصخور الفضائية.
قصة بشرية
قصة فِستا قصة تسمح لنا برؤية العلم كعملية بشرية كما هي. إنه غير معصوم، ويرتكب أخطاء، لكنه يستمر، وفي النهاية يجد شيئاً رائعاً. ربما لم يكن تيتيوس وبودي على صواب بشأن قانونهما (الذي يخفق أيضا عند النظر إلى كوكب نبتون الذي لا يتناسب مداره مع قانونهما). وربما لم يكن أولبرس محقاً بشأن معتقداته حول كيفية تشكل حزام الكويكبات. وعندما اقترح مصطلح “كويكب” Asteroid، ربما أخفى هيرشل غيرته، حتى ولو قليلاً، من أن الآخرين يمكنهم أيضاً اكتشاف كواكب. وفي وقت قريب، منذ ثمانينات القرن العشرين، ربما حاول علماء الفلك وأخفقوا لما يقرب من أربعة عقود قبل أن يحصلوا أخيراً على موافقة لبعثة فضائية تزور فِستا. ولكن بدلاً من تقليل شأن الإنجازات العلمية، فإن كل هذه الإخفاقات تزيد من معرفتنا وتقديرنا لهذا الجرم السماوي. وعندما خرجنا في 4 مارس لإلقاء نظرة على هذا الكويكب الساطع، فكّرنا في كل تلك الإخفاقات: فهي مجتمعة قد أتاحت لنا معرفة الشيء الذي ننظر إليه.