أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقالات الإشتراكمواضيع غلاف العدد

غاليليو و طبيعة الرصد الفلكي

نُشر كتاب غاليليو رسول النجوم Sidereus Nuncius في مارس من عام 1610، وهو أول عمل علمي يعتمد على استخدام التلسكوب. ففي هذه المقالة ينظر الفيلسوف توبي فريند إلى الأسئلة التي ما زال الكتاب يثيرها حول كيفية رؤيتنا للعالم الطبيعي

توبي فريند Toby Friend: فيلسوف يعمل في جامعة بريستول على مشروع الوحدة الميتافيزيقيَّة للعلوم، بتمويل من ERC (المنحة 771509).

عندما ننظر إلى السماء عبر التلسكوب من السهل الافتراض أنه يمكننا أن نتعلم كيف يبدو الكون لنا من دون أن يصطبغ بفرضيات نظرية وفلسفيَّة. فعلى الرغم من كل شيء، لا يبدو أننا بحاجة إلى معرفة أي نظرية معينة من نظريات علم الكونيات لنتمكَّن من تشغيل التلسكوب أو لتسجيل ما نراه. وما دخل الفلسفة أصلاً بذلك؟ غير أن الأمور في الحقيقة ليست بهذه البساطة. فالعلاقة بين ما يظهر لنا في سماء الليل وما تقوله نظرياتنا عن تلك المظاهر تحفل بالأسئلة التي لا تزال تحير الفلاسفة والمفكرين. وقد يتضح أن ما يمكننا معرفته عن الكون يعتمد على العديد من العوامل التي لا ندركها عادة.
منذ ما يزيد قليلاً على 400 عام، في ربيع عام 1610، كان غاليليو يحدّق في السماء بأحدث أداة له. فقد كانت التلسكوبات ذات التكبير 2X قد وجدت منذ بضع سنوات فقط، وقد صنع الآن هذا العالم الموسوعي ابن مدينة بيزا Pizza لنفسه أداة أقوى بعشر مرات منها. وبهذا التكبير الإضافي وعينه الثاقبة، فقد كان غاليليو أول من رصد فوهات القمر و أربعة من أقمار المشتري، والتي وصفها في كتابه Sidereus Nuncius رسول النجوم The Starry Messenger. ومع أنه امتنع عن التصريح بذلك في الكتاب، إلّا أنه استخدم نتائج أرصاده ليدعم بها نموذج كوبرنيكوس Copernicus عن مركزية الشمس Heliocentric model في المجموعة الشمسية، وذلك من خلال إثارة الشكوك حول فكرة كمال الأجسام السماوية واقتراح أن بعض الأجرام الأخرى -على الأقل غير الأرض- كانت أجرام أخرى تدور حولها في مدارات في هذه الحالة، كان المثال هو كوكب المشتري). وهذا ما أدى إلى وقوعه في مشكلة مع الكنيسة الكاثوليكية.
من منظور فلسفي حديث، فإن ما هو مدهش جداً بشأن “قضية غاليليو” Galileo affair مع الكنيسة لم يكن دليل مركزية الشمس، بل فحوى شكوى الكنيسة. ففي عام 1616 أصدر الكاردينال بيلارمين Cardinal Bellarmine تعليمات إلى غاليليو “… بالتخلي تماماً… عن الرأي القائل إن الشمس تقع بثبات في مركز العالم، وأن الأرض تتحرك”. ومع ذلك، لم تكن التعليمات تأمر بالتخلي عن نموذج مركزية الشمس كوسيلة تنبؤية مفيدة. فقد كان الكاردينال قد أشار من قبل إلى أن ‹بيان أن فرضية دوران الأرض حول الشمس هي مجرد طريقة تُمكِّن المرء من أن يحسب بدقة أين ومتى ستكون الأجرام السماوية الأخرى في سماء الليل› هو أمر مختلف تماماً عن الإساءة إلى المقدَّسات الدينيَّة بالإعلان أنه “في الحقيقة، تقع الشمس في المركز، والأرض هي المعلَّقة في السماء”. فقد كان قلقا من أن غاليليو قد أخذ يروّج لنموذج مركزية الشمس كشيء يمكن تصديقه بدلاً من أن يكون، على حد تعبيره، مجرد وسيلة تستخدم “لحفظ الظاهرات/المظاهر” Save the appearances.

خطوط البحث العلمي
وهناك تاريخ مقدس يحيط بفكرة أن البحث العلمي يجب أن يهدف فقط إلى “حفظ المظاهر”. وتعود جذور العبارة إلى تأملات الفلاسفة اليونانيِّين ومراقبي النجوم القدماء، وكانت موضوعاً ساخناً بين المفكرين ذوي التفكير العلمي منذ ذلك الحين. ففي عام 1908 اقترح الفيزيائي والفيلسوف الفرنسي بيير دوهيم Pierre Duhem أن المنطق إنما كان يدعم بيلارمين وليس غاليليو. واستندت حجته إلى أن بيلارمين فَهِم أن مغزى العلم هو تطوير نظريات تساعدنا على التنبؤ بتنبؤاتٍ دقيقة، وليس أمرا يقيَّم من حيث معقوليَّته. وقد اعتنق غيره ممن يسمون “الوضعيين المنطقيِّين” Logical positivists من أوائل القرن العشرين إلى منتصفه وجهة نظر مماثلة، بحجة أن الادعاءات حول العالم التي تتجاوز ما يمكن رصده مباشرة هي ادعاءات غير مبرَّرة. ويجادل الفيلسوف المعاصر باس فان فراسن Bas van Frassen في أن “العلم يهدف إلى تزويدنا بنظريَّات مناسبة تجريبيّاً”. بعبارة أخرى، يهدف العلم فقط إلى التنبؤ بما هو حسِّي وملموس، لا أكثر.
إذا كان هؤلاء المفكرون على حقٍّ، فإن ما يمكن أن نتعلَّمه عند النظر من خلال التلسكوب لا يتعدَّى ما تبدو عليه الأشياء لنا. وقد يتفهَّم المرء الفكرة العامة. فهناك حكاية معروفة تروي أن فيلسوفا (فيتغنشتاين Wittgenstein) يسأل فيلسوفة أخرى (أنسكومب Anscombe) لماذا اعتقد الكثيرون أن الشمس تدور حول الأرض. فأجابته: “لأن الأمر يبدو بهذه الصورة”. فسأل الأول: “وكيف كان سيبدو لو كانت الأرض هي التي تدور؟” كانت الحجَّة هو أن المظاهر -الصورة التي تبدو عليها الأشياء – لا تخبرنا وحدها بما يجب تصديقه. ولكن في العلم التجريبي، فإن الطريقة التي تظهر بها الأشياء لنا هي كل ما لدينا للاعتماد عليه. لذلك لا ينبغي للعلم أن يتعدَّى حدوده بهدف تحديد أي شيء أكثر عن العالَم، ويجب أن يلتزم فقط بـ“حفظ المظاهر”، تماماً كما جادل بيلارمين.

وجهات نظر مختلفة
ومع ذلك، فنحن نريد بالتأكيد أن نقول إن غاليليو كان له ما يبرِّره في الاعتقاد بصحة مركزيَّة الشمس. والآن، نحن ندّعي باستمرار أنَّنا نتعلم حقائق حول العالم على أساس الأرصاد التلسكوبيَّة: فظهور النجوم بالقرب من الشمس أثناء الكسوف يؤكد انحناء الفضاء؛ ويؤكد اكتشاف الإشعاع الدقيق للخلفية الكونية Cosmic Microwave Background (يمين) أن الكون قد توسَّع؛ ودوران المجرات يؤكد وجود المادة المعتمة Dark matter؛ وهكذا. ولو نجح بيلارمين ودوهيم والوضعيُّون المنطقيون في فرض رأيهم؛ لكان علينا نحن الانتظار حتى عام 1990، عندما أرسلت لنا مركبة فوياجر 1 (Voyager 1) “الصورة العائليَّة” للمجموعة الشمسيَّة، قبل أن يُسمح لنا بالقول إن مركزيَّة الشمس قابلة للتصديق. فقد كانت تلك أولُّ صورة فوتوغرافيَّة نحصل عليها لموقع الشمس بالنسبة إلى الكواكب. وعلى عكس ذلك، يميل معظم العلماء المعاصرين إلى أن يكونوا “واقعيين” Realists. إنهم يرصدون ويلتقطون الصور ويسجلون قراءات الحاسوب والبيانات لتأكيد إيماننا بحقيقة النظريات التي تتجاوز ظواهر الأشياء.
لذا، فإن ما تعتقد بإمكان تعلمه بالنظر عبر التلسكوب يعتمد، لسبب معيَّن، على ما إذا كنت واقعيّاً علميّاً أم لا، فليس من السهل التوصل إلى تسويَّة. ومن ناحية أخرى، ربما يبدو أن نجاح النظريات العلمية عبر العصور يشير إلى أنها يجب أن تكون أكثر من مجرد اختراعات للتنبؤ بكيف ستبدو الأشياء. وكما أشارت الفيلسوف هيلاري بوتنام Hilary Putnam في عام 1975، فالواقعيَّة “…هي الفلسفة الوحيدة التي لا تجعل نجاح العلم معجزة”. ومن ناحيَّة أخرى، يصعب إنكار أنَّه حتى أكثر نظريَّاتنا العلميَّة نجاحاً يبدو مقدراً لها أن يجري تخطِّيئها في النهاية. فقد عرفنا في عصر نيوتن، على سبيل المثال، أن مركزيَّة الشمس كما تصوَّرها غاليليو لم تكن صحيحة تماماً، فالشمس ليست تماماً في مركز جاذبية المجموعة الشمسيَّة. إذ رفض غاليليو تصديق أن الكواكب تدور في مدارات على شكل قطع ناقصة، وفي الآونة الأخيرة، عرفنا أن المجموعة الشمسيَّة هي ليست حتى في مركز مجرتنا، وهذه التطورات يجب أن تثير الشك في فكرة أن النظريات الفيزيائيَّة الحاليَّة صحيحة تماماً. ولكنها أيضاً تثير التساؤل حول وجهة نظر الواقعيِّين القائلة إن الحقيقة هي ما يجب أن يبحث عنه علماء الفلك في المقام الأول. إذا كان من المقدر استبدال معظم النظريَّات، فلماذا نصدقها إذاً؟

عقليَّة منفتحة
لكن ربما لا نحتاج إلى التوصل إلى تسويَّة في كلتا الحالتين. ويعتمد كل من الواقعيِّين، مثل غاليليو، و“المناهضين للواقعية” Anti-realists، مثل بيلارمين، على فكرة وجود مظاهر Appenrances على الأقل، يمكن إما حفظها أو تجاوزها. وهذا مشكوك فيه بحد ذاته. يُشتبه الآن في أن تخمينات غاليليو حول حجم النجوم كانت ملتبسة بسبب الأقراص الهوائيَّة (أنماط الحيود Diffraction patterns) التي ظهرت في تلسكوبه حول صور النجوم. فإذا كان هذا صحيحاً، فلن تظهر النجوم لغاليليو مباشرة على الإطلاق. في الوقت الحاضر، نادراً ما تجرى أي تجربة فلكية بالرصد المباشر.
كحد أدنى، تنقل التلسكوبات ضوء النجوم إلى أعيننا عبر سلسلة مرايا وعدسات. أمَّا التلسكوبات الكبيرة، مثل هابل، فتسجِّل على الحواسيب بيانات من الطيف الكهرومغناطيسي أكثر بكثير مما يمكننا إدراكه. ويتعيَّن على علماء الفلك معالجة تلك البيانات للحصول على فكرة عما يشير إليه هابل. وبإدراك الطبيعة غير المباشرة لأرصادنا الفلكية، أين يجب أن نقول بوجود المظاهر؟ هل هي على العدسة الخارجيَّة لتلسكوباتنا أم على مرآة داخليَّة ما؟ في عينيَّة التلسكوب أم على عدسة أعيننا نحن؟ وأي خيار سنختاره سيبدو اختيَّارا اعتباطيّاً. ولكن إذا لم نستطع القول أين تكمن الظاهرات/المظاهر، فلن يكون منطقيّاً الادعاء أن الهدف من النظريَّات العلميَّة هو إما حفظها أو تجاوزها.

تصوُّرات صعبة
يبدو البديل لكل من الواقعيِّة ومناهضة الواقعية Anti-realism هو الاعتراف بأن النظرية والظاهرات/المظاهر مرتبطتان ببعضها البعض ارتباطاً وثيقاً. وبحلول ستينات القرن العشرين بدأ المؤرِّخون والفلاسفة مثل نوروود راسل هانسن Norwood Russell Hanson، وبول فييرابند Paul Feyerabend، وتوماس كون Thomas Kuhn بالإشارة إلى أن الرصد العلمي “محملا بالنظريات” Theory-laden، أي مقيَّد بمعارف نظريَّة يجب فهمها من أجل فهم أي معنى للصورة التي تبدو عليها الأشياء. يوضح هذا كيف أدركت الوكالة ناسا NASA وجود خلل بمجرد النظر إلى صور تلسكوب هابل الضبابية الأولى. فبالنظر إلى ما عرفناه بالفعل، لا ينبغي للكون أن يبدو هكذا. بل حتى استخدامنا لتلسكوباتنا المنزليّة محملا بالنظريَّات. فعلى سبيل المثال، نعلم أن علينا انتظار أمسيَّات خاليَّة من السحب، وأن نضبط التركيز أو نحاذي البصريات للتصحيح إذا كانت الصورة التي نراها غير حادَّة الدقة. وبصورة حاسمة، أدرك غاليليو الكثير من هذه الأمور، ولكن ليس كلُّها؛ كان جزءاً من مشكلته هو إقناع الآخرين أن يثقوا بأداة لم يكن ممكناً لأي نظريَّة بصريَّة في ذلك الوقت أن تفسر عملها تماماً.
إذن، ما الذي يمكنك تعلُّمه عند النظر إلى السماء من خلال التلسكوب؟ من الواضح أن ذلك يعتمد على مقدار معارفك النظريَّة التي قد تكون محظوظاً لأن تكون محملا بها: عن سماء الليل ومدى بُعد الأشياء التي تريد مشاهدتها، عن البصريَّات، عن صنع التلسكوب، وعن قدراتك الإدراكيَّة أنت. تخيَّل مدى صعوبة استعمال تلسكوب إذا لم تكن تعرف هذه الأشياء! لكن ما يمكنك تعلُّمه يعتمد أيضاً على ما إذا كان من الممكن، كما يعتقد الواقعيُّون، معرفة أي شيء يتجاوز مظاهر/ظاهرات الأشياء. ويعتقد المناهضون للواقعيَّة أن هذا غير ممكن لأن هذه ليست وظيفة العلم. ويعتقد بعضهم الآخر أنَّه غير ممكن، لأنَّه لا يوجد أي شيء محدَّد لمفهوم “كيف تظهر الأشياء لك” بنحو مستقل عما تعتقده بالفعل. سيستمر الفلاسفة وعلماء الفلك ومؤرخو العلوم بمناقشة هذه القضايا لفترة طويلة؛ لكنها أشياء يجب علينا جميعاً أن نفكِّر فيها ونحن نحدق عاليّاً في ليلة الرصد الصافيَّة التاليَّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى