أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاء

العودة إلى الوطن من بــيــنــو

بينما تستعد المركبة الفضائية أوزايريس ركس لبدء رحلة عودتها الطويلة إلى الأرض، يروي ويل غيتر القصة الحقيقية المثيرة لهدف بعثة جلب عينات من الكويكب، وما قد تخبرنا به حمولتها من صخور الفضاء

ويل غيتر Will Gater: صحفي مختص بالكتابة في علوم الفلك ومقدم علمي. صدر كتابه الأخير أسرار الكون The Mysteries of the Universe، مؤخراً عن دار DK

عندما أرسلت المركبة أوزايريس ركس OSIRIS-REx أول صورة لها في 22 أكتوبر 2020، بدا كل شيء كما هو متوقع إلى حد كبير بالنسبة إلى الباحث الرئيس للبعثة، البروفيسور دانتي لوريتا Dante Lauretta؛ إلا أن الصور المستلمة بعد ذلك من كاميرا المستكشف الآلي “سام كام” SamCam، كانت هي ما أثارت القلق.
قال لوريتا: “لا يعجبني هذا” ملتفتاً إلى مهندسة النظم إستل تشيرش Estelle Church التي وقفت إلى جانبه في مركز عمليات المركبة الفضائية في لوكهيد مارتن، بليتلتون، في ولاية كولورادو.
ويتذكر لوريتا ردها: “أنا أيضاً لا يعجبتي ذلك”. وسرعان ما التقط الهاتف ليخابر زميله ريتش بيرنز Rich Burns مدير مشروع البعثة أوزايريس ركس.
وسأله لوريتا: “هل شاهدت الصور المرسلة من الكاميرا SamCam؟ يجب أن تأتي إلى هنا حالاً!”
فقبل أيام فقط، أكملت المركبة الفضائية أوزايرس ــركس المرحلة الأكثر إثارة في مهمتها، ألا وهي التقاط عينات من سطح كويكب بينو Bennu القريب من الأرض. مثَّلت تلك المناورة ذروة عمل سنوات من البحث العلمي، ومع ذلك فما زال على البعثة أن تكمل جزءاً مهماً من خط رحلتها: العودة إلى الوطن. وبينما سيمضي فريق علماء المركبة الأشهر المقبلة في الإعداد لعملية إشعال محركها الذي سيعيدها إلى الأرض، لا تزال ردود الفعل حول ما عرفناه حتى الآن تتصاعد.

إيجاد هدف
بعد أن عبرت الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية متجهة إلى بينو، درست المركبة أوزايرس ركس التي أطلقت في عام 2016 هدفها الصخري واستطلعته بدقة لمدة عامين. ومنذ البداية، اتضح أن الكويكب “بينو” يخفي أسراراً أكثر مما قد يتخيله الكثيرون. فقد توقع الباحثون أن يكون سطح الكويكب مغطى في الغالب بقطع صغيرة من المادة بحجم لا يتجاوز السنتيمتر. بدلاً من ذلك، أظهرت صور المركبة الفضائية عند وصولها جرماً مغطى بصخور كبيرة بل هائلة الحجم.
في النهاية، وبعد تحليل دقيق، حدّد فريق البعثة منطقة على “بينو” كانت أقل وعورة من المناطق المحيطة بها؛ وهي الفوهة التي أطلق عليها اسم “العندليب” Nightingale، لتكون موقع الهدف الرئيسي للبعثة، وحيث ستهبط المركبة الفضائية لجمع المادة التي ستنقل لاحقاً إلى الأرض.
ويعتمد الجزء الجوهري من العمليات على استخدم أداة جمع العينات مركّبة على ذراع آلية متمفصلة تمتد من الجسم الرئيسي للمركبة الفضائية. وتضغط أداة آلية إمساك العينات بالملامسة Touch – and – Go Sample Acquisition (اختصاراً: الاأداة TAGSAM) على السطح وتطلق دفقة من غاز النتروجين، ليدفع “سُحبا” من المادة الصخرية إلى حجرة أسطوانية رقيقة.
وكما هو مخطط تماماً، فقد التقطت العينات بتاريخ 20 أكتوبر، وأظهرت الصور التي أرسلتها المركبة للعملية المذهلة الأداةَ TAGSAM وهي تنغرس في سطح بينو، ثم ابتعاد المركبة عن الموقع.

احتدام التوتر
احتاج فريق البعثة إلى التحقق من أنهم قد التقطوا بالفعل قطعاً من الكويكب، لذلك بعد فترة وجيزة أمروا المركبة بالتقاط صور لرأس أداة جمع العينات باستخدام أطوال تعريض Exposure lengths مختلفة. وكانت هذه هي الصور التي ظهرت الآن على شاشة كبيرة أمام دانتي لوريتا وزملائه، فسرت فيهم قشعريرة ذعر.
يتذكر لوريتا قائلا: “عندما وصلنا إلى الصور ذات التعريض الطويل حقاً، كان بإمكاننا رؤية الأشعة فقط وهي تنبعث من رأس الأداة TAGSAM”. وكان كل “شعاع” منها يمثل مسارا مطموسا Blurred trajectory لقطعة صغيرة من الكويكب تنجرف مبتعدة أمام الكاميرا بطريقة ما كانت العينة التي قطعت المركبة من أجلها إلى هذه المسافة تهرب من قبضتها. ويقول: “وكان فؤادي ينفطر لرؤية كل قطعة تنجرف بعيداً، وشعرتْ كما لو كانت ‘أطروحة دكتوراه لأحدهم تضيع هباء منثورا في ذلك الفضاء’”.
وبينما كان الفريق يتسابق لتحديد كيفية تسرب القطع من حاوية الأداة TAGSAM، بدأت تظهر صورة أكثر إيجابية لما التقطته أداة الجمع بالفعل. إذ أظهرت إحدى الصور المُرسلة إلي الأرض أن قطعة بقطر 3 سم من “بينو” كانت عالقة بفتحة “الصمام” المصنوع من نسيج مايلار “Mylar fabric “valve – والمفترض أن يمسك بأي عينة مُلتقطة- ولذا ظل الصمام مفتوحا. وأظهرت دراسة أخرى لصور المركبة أربعةَ صخورٍ أخرى تتراوح أحجامها بين سنتيمتر وثلاثة كلها محشورة في فتحة الصمام.
وعلى الرغم من أن هذه القطع كانت تبقي صمام أداة الجمع مفتوحا مما يسمح للجسيمات بالتسرب خارجاً، إلّا أن العلماء تمكنوا من استنتاج بناءً على افتراضات حول كثافة القطع وتقديرات أحجامها أن الصخور الخمسة تمثل نحو 30 غراماً فقط من مجمل العينة؛ وبدا كل ذلك عالقاً في أداة الجمع. وبالنسبة إلى بعثة كُلِّفت بإحضار 60 غراماً من الكويكب، فقد مثلت تلك الكمية نسبة مهمة من هدف البعثة.
إضافة إلى ذلك، بدت الشبكة -التي تبطن جدار حاوية الأداة TAGSAM الأسطوانية- معتمة تماماً، في تناقض صارخ مع صور الاختبار الملتقطة للحاوية نفسها قبل أخذ العينات والتي أظهرت تدفق ضوء الشمس من خلالها الحاوية. وقد جادل الباحثون في أن ذلك يشير إلى وجود 50 غراماً إضافية من مادة الكويكب داخل الحاوية، مما سدّ الثقوب الصغيرة في الشبكة.
وقد تمكن الفريق من إلقاء نظرة خاطفة داخل الحاوية كما ظهرت في إحدى الصور المرسلة. ويقول لوريتا: “يمكنك في الحقيقة رؤية ما وراء لسان الاغلاق Flap [المايلار] ورؤية حبيبات سوداء بالداخل”. ويضيف: “إنها تمثل %17 تقريباً من الحجم الإجمالي داخل أداة الجمع وهو ما نشاهده في الصورة. وإذا كانت العينة تملأ هذا الحيز كله؛ فهذا يعني التقاط ما يقرب من 300 غرام إضافية من العينات”.

العينات الهاربة
عموما، يعتقد لوريتا وزملاؤه أن الأداة TAGSAM قد التقطت مئات الغرامات من المواد. ومن المحتمل أننا فقدنا ما مجموعه 100 غرام فقط تقريباً، بما في ذلك القطع التي هربت عندما تحركت الذراع الآلية لإعادة ذراع أداة الجمع إلى موضعها في كبسولة العينة، وذلك تمهيداً لرحلة عودتها إلى الأرض وهو إجراء اتخذ في وقت أبكر مما هو مخطط له لمنع إفلات المزيد من مادة العينات. وعلى الرغم من ذلك كله، فحتى قطع “بينو” تلك التي أفلتت بعيداً أمام أعين الباحثين قد كشفت عن تبصرات ثاقبة في الكويكب.
قبل أن تنفذ المركبة محاولتها الجريئة لأخذ العينات، اكتشفت مصادفة أن بينو يقذف آلاف القطع الصغيرة من الصخور إلى الفضاء. وقد جادل الباحثون الذين عملوا على بيانات المركبة في أن هذه الجسيمات لها شكل دقيق يشبه الرقائق؛ ومن المؤكد أن صور المواد المتسربة من أداة الجمع TAGSAM كشفت عن أشياء بهذا الشكل. يقول لوريتا: “إنها تشبه رقائق الكورنفليكس. فقد حصلنا على بيانات صور لأنواع المواد التي نعتقد أنها تدور حول الكويكب، لذا فهو يتحول في الواقع إلى تجربة علمية”.
تُظهر الصور أداة جمع العينات TAGSAM وهي تغوص في سطح بينو، وتأثيرات صواريخ دفع المركبة في سطح الكويكب عندما شُغلت لتخفيف سرعة المسبار أثناء الهبوط، هذه الصور تعكس أيضا جوانب رائعة من علم الفيزياء. ويشير لوريتا إلى أن الصور تشير إلى تماسك منخفض جداً بين الصخور والحبيبات الصغيرة التي تكوّن سطح الكويكب؛ ويقول: “لقد انجرف كل شيء بعيداً مثل سائل. بدا الأمر مثل ضرب سطح بركة ماء. وتابعنا تنفيذ خطتنا. وعندما لامست المركبة سطح الكويكب، فهي بالكاد شعرت بأي قوة”.
توضح تجربة بعثة أوزايرس ركس بأناقة لماذا يشير بعض علماء الكواكب إلى كويكبات مثل “بينو” باسم “أكوام من الركام” Rubble piles. ويوضح لوريتا: “فعلياً، بعد مرور 16.6 ثانية بعد التلامس الأولي ارتفع رأس الأداة TAGSAM فوق النقطة حيث كان السطح الأصلي. لا أعتقد أنه كان تبقى أي شيء من مادة سطح في تلك اللحظة، لأننا كنا قد حولناه إلى فوهة، لكنه سطح مع ذلك. ولو أننا لم نشعل صواريخ الدفع تلك، فأنا لا أعرف إلى أي عمق كانت المركبة ستغوص في السطح السابق”.
في الوقت الراهن، ما يكمن تحت سطح بينو من صخور وأحجار وغبار غير متماسك هو مجال لتخمين أي شخص. ويقول لوريتا: “سيكون هذا أحد الآفاق التالية لأبحاث الكويكبات… أن نسبر باطن بنية أكوام الركام هذه”. ومع ذلك، فإن العينة التي تعيدها بعثة أوزايرس ركس ستحمل معها قدراً هائلاً من المعلومات.
ويشير خبير النيازك في جامعة غلاسغو د. لوك دالي Luke Daly الذي سيساعد على تحليل عينة كويكب أعيدت بمركبة فضائية أخرى هي مركبة هايابوسا 2 (Hayabusa-2) اليابانية، أن الحصول على مادة كويكب حقيقية لفحصها في المختبر يمتاز على الأرصاد التي تجرى عن بعد بالتلسكوبات بميزة كبيرة، إذ يقول: “على الأرض، يمكننا تسليط الضوء على أجزاء معينة من العينة، أو عبرها، وفحصها بإطلاق أشعة الليزر عليها، وإذابتها، وتشريحها، وتفتيتها على المستوى الذري لندخل فعلاً في باطن المادة المكوّنة لها”.
مثل عمليات التحليل قادرة على تقديم رؤى عميقة في تاريخ كوكبنا. يقول دالي: “هذه الكويكبات غنية بالمياه، وهي الآن أكثر المرشحين احتمالاً لنقل الماء والمواد العضوية إلى الأرض المبكرة. وبدراستنا تكوين الماء في هذه العينات، نأمل بالحصول على إجابة قاطعة عن مصدر محيطات الأرض”.
قبل أن يتمكن أي شخص من دراسة عينات مركبة أوزايرس ركس، سيتعين على لوريتا وفريقه نقلها بأمان إلى الأرض. ولفعل هذا، سيرسلون بتاريخ 10 مايو المقبل أمراً للمركبة لإشعال محركاتها الرئيسية، وتحريكها إلى مسار يتجه نحو الأرض وهبوط كبسولة العينات في صحراء يوتا. ويقول لوريتا: “دائماً ما أشعر بالدهشة والإعجاب بفريقنا المشرف على ديناميكيات تحليق المركبة. عملية تشغيل واحدة في عام 2021 ستضع المركبة في مسار عودة مدته عامين ونصف ينتهي وصولاً إلى الأرض في سبتمبر 2023”. وبالنسبة إلى العلماء الذين سيلمحون بأعينهم شظايا حقيقية من سطح “بينو”، فهذا موعد لن يحين بسرعة كافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى