أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاءفلك وعلم الكونيات

20 عـاماً عـلى محطة الفضاء الدولية

صادف شهر نوفمبر الماضي مُضِيَ عقدين من العمل البشري على محطة الفضاء الدولية. وتلقي نيشا بيرجيراز-هويل نظرة على تاريخ المحطة الفضائية، وكيف تستعد لجيل جديد من مستكشفي الفضاء

نيشا بيرجراز هويل Nisha Beerjeraz-Hoyle: صحافية مختصة بالكتابة العلمية ومواضيع الفضاء

مع كل شروق للشمس، نستيقظ ونمضي في حياتنا اليومية، مع قليل من التفكير في وجود مجموعة من البشر تعيش على ارتفاع 400 كم فوق الأرض، في مختبر يدور حولها في الفضاء. وتتحرك هذه المجموعة بسرعة 27,600 كم/ساعة، وتبصر 16 شروقاً للشمس يومياً، وتنجز دورة كاملة حول كوكبنا مرة كل 90 دقيقة فقط. هناك أجيال تنمو حاليا تعرف وقتاً عاش فيه النوع البشري على كوكب الأرض وبعيداً عنه في آن واحد.
على مدار العشرين عاماً الماضية كان هناك وجود بشري متواصل في الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية International Space Station (اختصاراً: المحطة ISS). وهذا الوجود بدأ في مثل هذا الشهر قبل عقدين من الزمن عندما التحمت مركبة سويوز Soyuz بتاريخ 2 نوفمبر 2000، وعليها طاقم البعثة 1 (Expedition-1) المكوّن من رائد الفضاء الأمريكي ويليام ‘بيل’ شيبرد William ‘Bill’ Shepherd، ورائدي الفضاء الروسيين سيرجي كريكاليف Sergei Krikalev ويوري جيدزينكو Yuri Gidzenko، بمحطة الفضاء الدولية، وعبرا إليها من خلال الكوة وأشعلا أضواءها. ومنذ وصولهم هذا، فقد عنى التناوب المستمر للطواقم أن محطة الفضاء الدولية لم تفرغ من روادها بعد ذلك مرة أخرى.
محطة الفضاء الدولية هي أعجوبة هندسية: أكبر هيكل بني في الفضاء على الإطلاق، بوزن يبلغ نحو 420 ألف كغم (أكثر من 320 سيارة)، وطول يبلغ 109 أمتار، لتكون بذلك أطول من ملعب كرة القدم. وقد جرى بناء وحداتها التصميمية على مدى 13 عاماً، وهي تحتوي على مصفوفات ثمانية ألواح شمسية، و“عمود فقري” داعم رئيسي، ووحدات سكن مكيفة الضغط. وغرف السكن هي معاً أكبر حجماً من منزل يتكون من ست غرف نوم، وتشمل ستة أماكن للنوم، وحمامين، وصالة رياضية، ونافذة كبيرة تطل خارجاً بزاوية 360° تسمى القبة Cupola.
يقول رائد وكالة ناسا جيف ويليامز Jeff Williams، الذي نفّذ أربع رحلات إلى المحطة الفضائية، بما فيها الرحلة رقم
STS-101 وهي الثالثة المكرسة لبناء المحطة: “عندما تنظر إلى المجمع بكامله، كان هناك ما يقرب من 37 رحلة مكوك فضائي؛ وأيضاً نحو 40 صاروخاً روسياً لبناء وتجميع وحدات المحطة. نقلت معظم هذه الرحلات مكوناً رئيسياً من مكونات المحطة، وبعضها كان مهمات لوجستية لنقل مؤن إليها”.

الاستعداد
وفي عام 2000 كانت محطة الفضاء الدولية مجرد جزء صغير من حجمها الحالي، يتكون من ثلاث وحدات فقط لتوفير أساسيات السكن الدائم. وكانت الوحدة زاريا Zarya هي أول وحدة تطلق إلى المدار في عام 1998 (بنتها وأطلقتها وكالة الفضاء الروسية روسكوزموس Roscosmos، بتمويل من الولايات المتحدة)، تبعها بعد فترة قصيرة الوحدة يونيتي Unity التي صنعتها وأطلقتها الولايات المتحدة. وبعد تأخر دام 18 شهراً، ربطت الوحدة زفسدا Zvezda روسية الصنع، والتي ستوفر أنظمة دعم الحياة للمحطة الفضائية، بالوحدة زاريا في شهر سبتمبر 2000، استعداداً لاستقبال الطاقم الأول.
يوضح ويليامز قائلا: “لم يكن الوصول حتى إلى هذه النقطة بالطريق السهل: ليس فقط بسبب الحاجة إلى استمرار الدعم السياسي، ولكن أيضاً بسبب ضرورة التكامل الفني لمعظم هذه المكونات والعناصر التي كانت بحاجة إلى أن تعمل معاً”. وبحلول عام 1993 كانت قد مضت تسع سنوات على توجيه الرئيس الأمريكي ريغان لبناء محطة فضائية في مدة عقد من الزمن. وخضعت محطة الفضاء Freedom، كما كانت تسمى حينذاك، للعديد من عمليات إعادة التصميم، إذ كافح مهندسو وكالة ناسا تحديات بناء هيكل لمحطة كبيرة ومستقرة في الفضاء.
لكن سقوط الاتحاد السوفييتي مهّد الطريق لشراكات جديدة بين خصوم سابقين، وجلبت الوكالة الروسية خبرة لا تقدر بثمن من محطتيها الفضائيتين “ساليوت” و“مير”. هكذا، وجنباً إلى جنب مع وكالة الفضاء الكندية والأوروبية وجاكسا JAXA اليابانية، شهد التعاون بين 15 دولة ولادة محطة فضاء دولية حقيقية.

الدفع معاً
تجلت قوة هذه الشراكة عندما كلفت مأساةُ مكوك الفضاء كولومبيا في عام 2003 أرواحَ معظم رواد الفضاء السبعة الذين كانوا على متنه، وتوقفت المزيد من رحلات المكوك الفضائية. وفقد ويليامز أصدقاء مقربين في ذلك حاليا. يقول ويليامز: “إنها شهادة رائعة على قوة هذه الشراكة، لا سيما بين الولايات المتحدة وروسيا… فقط للحفاظ على مواصلة تشغيل محطة الفضاء الدولية في حين نعالج نحن المشكلات التي تسببت في مأساة كولومبيا، وأدت بالطبع إلى إيقاف طلعات مكوك الفضاء بين سنتين إلى ثلاث سنوات. وأدت هذه الشراكة إلى المشهد المألوف الآن لكبسولة سويوز الروسية وهي تنقل رواد فضاء روس وأمريكيين وأوروبيين إلى محطة الفضاء الدولية.
محطة الفضاء الدولية ليست مجرد مسكن فضائي جميل، بل هي في الأساس مختبر علمي فريد، يسمح بإجراء تجارب غير ممكنة على الأرض، تتراوح من دراسة كيفية تفاعل كل من جسم الإنسان والنبات مع الحياة في الفضاء، إلى فهم سلوك المواد في الجاذبية الميكروية. كما أن هذه التجارب العلمية لا تستهدف كلها شؤون رحلات الفضاء المستقبلية فقط. إذ تشمل التجارب الحديثة نمو بلورات البروتين بهدف النظر في مسببات مرض باركنسون والسرطان، في حين أن استخدام تقنيات الاستشعار الجديدة لرصد درجات حرارة رواد في الفضاء قد يساعد على الكشف عن العلامات المبكرة للإجهاد الحراري لمهن مثل مكافحة الحرائق.
ولرواد الفضاء طرقهم البارعة لجعل تجاربهم ممتعة أيضاً. ففي عام 2015 نشرت رائدة الفضاء الإيطالية سامانثا كريستوفوريتي Samantha Cristoforetti صورة ذاتية لها وهي تشرب الإسبريسو أول مرة في الفضاء من فنجان بظروف انعدام الجاذبية. وتسمح تجارب مثل هذه للعلماء والمهندسين بفهم سلوك السوائل، ليس فقط لمنح رواد الفضاء فنجاناً لذيذاً من القهوة (على الرغم من أن هذا سيكون مفهوماً تماماً، باتفاق معظمنا)، ولكن لجعل المساكن الفضائية أكثر أماناً.
لا يتضمن يوم عمل رواد الفضاء إنجاز تجارب علمية مثيرة فقط أو حتى السير في الفضاء، فعملهم يشمل العناية بالمحطة الدولية وصيانتها، وهم مدربون على إصلاح أجزائها وتركيبها؛ مما يساهم في إطالة عمر المحطة. إنهم مسعفون طبيون متخصصون بالإصابات البسيطة التي قد تصيبهم، وهم أيضاً عمال نظافة، وفنيو تصوير، بل حتى مصففو شعر، ويجب عليهم ممارسة الرياضة لساعتين على الأقل كل يوم لمنع تدهور عظام وعضلات أجسامهم.

نفد الوقت
في أوقات فراغهم، يثير رواد المحطة الدولية فضولنا؛ فيشرحون لنا كيف يستخدمون المرحاض، أو كيف ينامون ويأكلون، وحتى كيف يمزحون في الفضاء الإجابة، إذا كنت رائد الفضاء الأمريكي سكوت كيلي، هو ارتداء زي غوريلا، والقفز من صندوق الشحن ومطاردة تيم بيك Tim Peake المرعوب عبر أنحاء المحطة (انظر الإطار: ص 59). وقد أسر مخيلتنا أولئك الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بصور مناظر خلابة للأرض التقطوها من خلال القبة كوبولا Cupola الشهيرة “نافذة على العالم” كما يصفها ويليامز المولع بالتصوير، والذي كان عضواً من فريق تركيب القبة على المحطة في عام 2010.
“لا حصر لتنوع ما يمكنك رؤيته بالنسبة إلى دراسة الأرض. فقد كان لدي حافزان اثنان لتنفيذ التجربة: الأول هو أن أكون قادراً على تذكرها واستحضارها بنفسي، والدافع الأكبر كان هو أن أقدم هذه التجربة الفريدة بطريقة غير مباشرة للناس هنا على الأرض”.
وبينما كان سكان محطة الفضاء الدولية يحدقون أسفلَ نحونا، كنا بدورنا ننظر إليهم وهم يعبرون السماء على ارتفاع 350 كم فوق رؤوسنا. فقد كانت محطة الفضاء الدولية هي نجمنا القطبي مجازاً، يذكّرنا بأن مستقبل استكشاف الفضاء قائم فعليا. والآن، فإن ذلك المستقبل -ومعه مصير المحطة الفضائية- هو عند نقطة تحول حاسمة.
ومن خلال الأهداف الرئيسية المناطة بمشروع العودة إلى القمر في عام 2024، فقد عملت ناسا على إنشاء منظومة اقتصادية في مدار أرضي منخفض، من خلال عمل محطة الفضاء الدولية كمركز تجاري. ووجود مؤسسات خاصة على محطة الفضاء الدولية ليس أمراً جديداً فقد استخدمت شركة أديداس Adidas رواد المحطة الفضائية لاختبار أحذية “تدريبها” Boost في ظروف الجاذبية الميكروية، في حين قدمت شركات خاصة أخرى وحدات معينة، مثل غرفة معادلة الضغط القابلة للنفخ BEAM من شركة بوينغ.
هناك الآن خطط أوسع لخصخصة عمليات على محطة الفضاء الدولية جزئياً على الأقل أكثر من مجرد توفير مختبر ابتكار للعلامات التجارية الكبرى، وذلك لتوفير نفقات صيانة المحطة سنوياً التي تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة بلايين جنيه إسترليني أي نحو نصف الموازنة السنوية لرحلات فضاء وكالة ناسا.
وإذا تعذر إنشاء نموذج جديد لملكية مشتركة للمحطة الفضائية فقد تصير المحطة سفينة مهجورة، أو مصنعاً لقطع الغيار لمحطات فضائية أخرى، أو أن تنزل من المدار عن قصد لإحراقها في الغلاف الجوي. يقول ويليامز إن معظم الخيارات لا تزال متاحة: “معظم هذه الأمور مهمة للنظر فيها ومحاولة تطويرها، ومن المحتمل أن يثمر بعضها”. ومع ذلك، فقد أعرب أيضاً عن اعتقاده الراسخ أن الحفاظ على وجود في المدار “سيكون ضرورياً لإنشاء وتطوير بنية تحتية على القمر وحوله”.

آفاق مستقبلية
بقدرتها على العمل حتى عام 2028 على الأقل، لا يزال هناك الكثير من الفرص لاكتشاف إمكانات محطة الفضاء الدولية، ونأمل بأننا قد صرنا مواطنين دائمين في بيئة الفضاء المعادية. وبينما يتجه انتباهنا إلى القمر والمريخ، يجدر بنا أن نتذكر أنه لولا محطة الفضاء الدولية، ما كنا لنتمكن حتى من مجرد التفكير في المضي أبعد ضمن عالم المجموعة الشمسية. ومع استمرار النقاش حول حقبة جديدة للمحطة، لا يمكن أن يكون هناك وقت أفضل من الآن للاحتفال بالسنوات العشرين الماضية التي أسست بداية حدود جديدة لوجود البشر في الفضاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى