الذكرى 30 لإطلاق تلسكوب هابل الفضائي
تكشف لنا جيني ويندر كيف أحدث هابل ثورة في رؤيتنا للكون عبر ثلاثة عقود
قبل 30 عاماً أطلقت الأرض تلسكوباً في الفضاء استطاع تغيير الطريقة التي ننظر بها إلى الكون من حولنا إنه تلسكوب هابل الفضائي Hubble Space Telescope (اختصاراً: التلسكوب HST). وقد كان من المناسب أن يطلق على التلسكوب اسم إدوين هابل Edwin Hubble العالِم الذي بيّن لنا إن كوننا يتوسع. ومقارنة مع هابل، سندرك بسهولة أنه لم يسبق لمهمة فضائية أخرى أن أغنت أو أحدثت ثورة في معرفتنا للكون، أو أسرت مخيلة العالم كما فعل تلسكوب هابل.
تطلب المشروع عقوداً من التنفيذ. وكانت فكرة وضع تلسكوب في الفضاء، متجاوزا التشويه Distortion التي يسببها غلاف الأرض الغازي قد اقترحها أول مرة في عام 1923 هيرمان أوبرت Herman Obert، وهو عالِم صواريخ ألماني. وفي عام 1946 بدأ عالِم الفلك الأمريكي ليمان سبيتزر Lyman Spitzer بالسعي لإطلاق المشروع. لكن ناسا NASA لم تنظر في الأمر بصورة رسمية قبل عام 1969، عندما نشرت بحثاً عن المزايا العلمية لما كان يطلق عليه في ذلك الحين اسم التلسكوب الفضائي الكبير Large Space Telescope. عقدت أول مجموعة عمل في عام 1974، وأقرت أخيراً موازنة قدرها 36 مليون دولار من قبل مجلس الشيوخ في عام 1978. ثم تقدمت وكالة الفضاء الأوروبية (اختصاراً: الوكالة إيسا ESA) للمشاركة في المشروع، وساهمت بمزيد من المال والخبرات.
ولكن طريق التلسكوب إلى منصة الإطلاق لم يكن سهلاً. وكان من المقرر إطلاقه بداية على متن مكوك فضائي في عام 1983، إلا أن المشكلات الفنية المتعلقة بمرآة Mirror التلسكوب سببت تأخراً متكرراً إلى ما بعد وقت الإطلاق المحدد، وأيضاً زيادة في التكاليف. وأخيراً، بدا موعد إطلاق محدد في سبتمبر من عام 1986 ممكناً مبدئياً، قبل أن تقع كارثة المكوك تشالنجر Challenger في يناير من ذلك العام، وتوقفت جميع الرحلات المكوكية بعدها. وهكذا تأخر المشروع لسنوات أربع أخرى، وزادت تكاليفه زيادة ضخمة بلغت 4.7 بليون دولار.
الاقلاع من الأرض
من جهة أخرى، فرضت ضرورة تقليص موازنة المشروع تعديلاً على الخطة الأصلية لتزويد التلسكوب بمرآة قطرها 2.4 م بدلاً من مرآة بقطر ثلاث أمتار، وستكون قادرة حمل 5 أجهزة علمية في آن واحد. في وقت الإطلاق كانت هذه هي المعدات التالية: كاميرا الكواكب والمجال الواسع Wide Field and Planetary Camera (اختصاراً: الكاميرا WFPC)، ومقياس غودارد الطيفي عالي الدقة Goddard High Resolution Spectrograph (اختصاراً: المقياس GHRS)، ومقياس الشدة الضوئية عالي السرعة High Speed Photometer (اختصاراً: المقياس HSP)، وكاميرا الأجسام الخافتة Faint Object Camera (اختصاراً: الكاميرا FOC)، ومقياس طيف الأجسام الخافتة Faint Object Spectrograph (اختصاراً: المقياس FOS).
في عام 1988 استأنفت الوكالة رحلات المكوك الفضائية. وأخيراً، في 24 إبريل 1990، انطلق المكوك ديسكفري Discovery في المهمة STS-31 من مركز كينيدي الفضائي Kennedy Space Center، ليضع في اليوم التالي تلسكوب هابل الفضائي في مدار على ارتفاع 550 كم تقريباً فوق الأرض، ليدور حولها دورة واحدة كل 97 دقيقة، بسرعة 28 ألف كم/ساعة.
وعندما بدأت الصور الأولى بالوصول من هابل إلى الأرض، بدا واضحاً وجود مشكلة خطيرة في البصريات Optics. فبدلاً من مشاهدة صور أكثر دقة Sharp، بدت النجوم محاطة بهالات ضبابية، وسببت صدمة كبيرة لفرق العلماء. ومع أن التلسكوب كان ما زال بوسعه رصد بعض الأجسام ساطعة، إلا أن رصد الأجسام خافتة الإضاءة كانت مستحيلة. وبتحليل الصور، تبين بسرعة لفريق علماء التلسكوب وجود خطأ مجهري Microscopic error على الحافة الخارجية للمرآة الرئيسة نتج من عملية صقل للمرآة أكثر من الدرجة المحددة لها.
وبالنسبة إلى أي تلسكوب آخر، كان هذا يعني خطأ قاتلاً. ولكن هابل كان قد صمم بطريقة تسمح بإجراء عمليات صيانة وتطوير له في المدار باستخدام المكوك الفضائي. وعلى الرغم من أن هذه الميزة لم تسمح باستبدال المرآة الرئيسة، إلّا أن كاميرا الكواكب والمجال الواسع 2 Wide Field and Planetary Camera 2
(اختصاراً: الكاميرا WFPC2) كانت في قيد التطوير حينها، إضافة إلى دعم من بعض البصريات التصحيحية وهذا ما جعل الوكالة تأمل بإصلاح وتعويض الخلل في المرآة.
أرسلت أول مهمة صيانة على متن المكوك إنديفر Endeavour في ديسمبر 1993. وإضافة إلى تركيب المعدات البصرية الجديدة، فقد استبدل الفريق الألواح الشمسية، وجهازي قياس القوة المغناطيسية Magnetometer، ومكونات كهربائية أخرى، وكذلك عمل على تطوير الحواسيب على متن التلسكوب لإبقائه يعمل لأطول فترة ممكنة.
هابل تحت الخطر
في يناير 1994، أظهرت أولى الصور الحادة الدقة المرسلة من هابل أن تلك المهمة الطموحة التي نفذت بدقة فائقة قد نجحت. وبذا انتزعت وكالة NASA انتصاراً لها من قلب الهزيمة.
في أثناء سنوات عمل هابل، نفذت مهمات صيانة تالية بصورة دورية. أما في عام 2003، فقد خشي الجميع على استمرار رحلات الصيانة هذه بعد حادثة تحطم مكوك الفضاء كولومبيا Columbia أثناء عودته إلى الأرض. وأصدرت الوكالة ناسا قراراً يقضي بضرورة أن تحظى جميع المهمات المكوكية المستقبلية بقدرة الالتحام بمحطة الفضاء الدولية كإجراء وقائي. ولما كان هابل يحلق في مدار آخر غير مدار المحطة الفضائية، فلم يكن هذا ممكناً.
وتعالى نداء علماء الفلك والجمهور على السواء لإطلاق حملة متواصلة لإنقاذ هابل. وأخيراً، في عام 2006، وافقت ناسا على آخر مهمة صيانة بعد تأخر كبير. وفي عام 2008 تعطلت وحدة معالجة البيانات الرئيسة على متن التلسكوب، مما أدى إلى فقدان جميع البيانات العلمية التي سجلت طوال شهر كامل.
في مايو 2009 حمل المكوك آتلانتس Atlantis آخر مهمة صيانة للتلسكوب، وجرى فيها استبدال وحدة معالجة البيانات الرئيسة وإصلاح جهازين آخرين. وقد ركّبت هذه المهمة على متن التلسكوب الأجهزة التالية: كاميرا المجال الواسع 3 Wide Field Camera 3 (اختصاراً: الكاميرا WFC3)، والمقياس الطيفي للبدايات الكونية Cosmic Origins Spectrograph (اختصاراً: المقياس COS)، وأيضاً آلية الإمساك الهادئ Soft Capture Mechanism (اختصاراً: الآلية SCM). ستسمح هذه الأجهزة لمهمة مستقبلية سواء كانت مأهولة أم آلية بتنفيذ عملية إنزال هابل من المدار عندما يصل أخيراً إلى نهاية مهمته.
علم رائد
طوال العقود الثلاثة الأخيرة، أدى تلسكوب هابل دوراً في دراسة كل مجال تقريباً من علوم الفلك. فقد اكتشف مناطق جديدة لتشكيل النجوم ، وأثرى معارفنا عن تشكيل الكواكب. كما نظر إلى مجرات نشأت عندما كان كوننا بنسبة 3% فقط من عمره الحالي، وأخبرنا بوجود ثقب أسود في قلب معظم المجرات. وساعدنا هابل على تحديد حجم مجرتنا درب التبانة وكتلتها، وأعطانا خريطة ثلاثية الأبعاد للمادة المعتمة Dark matter، وساعد على تحديد صفات الطاقة المعتمة Dark energy، وحدد معدل توسع كوننا، وقاس عمره، فوجده بقيمة 13.7 بليون سنة. في عام 2016، كشفت بيانات هابل أقدم وأبعد مجرة معروفة لنا، وهي المجرة GN-z11، التي تبعد عنا مسافة 32 بليون سنة ضوئية، وهو ما يعني أننا نراها كما كانت تبدو بعد 400 مليون سنة من الانفجار الكبير Big Bang.
وفي عام 2013 استطاع هابل أن يقيس العناصر الموجودة في الغلاف الغازي للكوكب النجمي HD 209458b. وفي عام 2008 التقط أول صورة بصرية على الإطلاق للكوكب النجمي فم الحوت ب Fomalhaut b. وكان كذلك هو أول تلسكوب يحدد اللون الحقيقي لكوكب نجمي، ووضع أدق خريطة طقس لأحد هذه الكواكب. كما وجد دليلاً على اصطدام كويكبين للمرة الأولى، ورصد تفكك كويكب ثالث. كما اكتشف هابل أقمار بلوتو: ستيكس Styx، وهيدرا Hydra، ونيكس Nix. وفي عام 2015 تمكن من تحديد مواقع 5 أجسام جديدة في منطقة حزام كويبر Kuiper Belt عندما استخدمه العلماء لإيجاد هدف لمهمة نيو هورايزنز New Horizons. وفي عام 1994 رصد هابل اصطدام مذنب شوميكرــ ليفي 9 Shoemaker-Levy 9 بكوكب المشتري، كما وقد وجد نفاثات من بخار الماء تنبعث من سطح قمره الآخر يوروبا Europa. وبقياسه أضواء الشفق Aurorae على قمره الآخر غانيميد Ganymede، فقد تمكن من تحديد حتمية وجود محيط تحت سطحه بعمق 100 كم تحت قشرة جليدية سماكتها 150 كم. وقد التقط هابل أيضاً أول ظهور متوقع لسوبرنوفا في عنقود مجري Galaxy cluster بعيد. وفي وقت أبكر من هذا العام وجد أن مجرة القبعة المكسيكية Sombrero Galaxy، أو المجرة M104، قد تعرضت لعمليات اندماج مجرية في الماضي. وهذا كله مجرد نزر بسيط من اكتشافات هابل التي تكوّن فهرساً من مئات المدخلات.
في أعوامه الثلاثين نفذ هابل عدة حملات رصدية رئيسة، أكبرها كانت حملة مسح إرث الحشد الكوني من المجرات البعيدة بالأشعة قرب تحت الحمراء Cosmic Assembly Near-infrared Deep Extragalactic Legacy Survey (اختصاراً: المسح CANDELS). واستخدمت هذه الحملة التلسكوب هابل لالتقاط صور عميقة لأكثر من 250 ألف مجرة، ولاستكشاف تطور الكون القديم عندما كان بعمر يقل عن بليون سنة بعد الانفجار الكبير. وقد نظر هابل إلى 5 مناطق مختلفة من السماء، ودرسها بالأطوال الموجية العديدة التي يستطيعها مع تلسكوبات مسح أخرى.
في عام 2006 استخدمت عملية مسح تطور الكون Cosmic Evolution Survey (اختصاراً: المسح COSMOS) التلسكوب هابل، مع تلسكوبات رئيسة أخرى كثيرة لدراسة جزء من السماء بمساحة درجتين مربعتين، أي أكبر بقدر 17 مرة من أي من مناطق مشروع المسح CANDELS. وقد اكتُشف أكثر من مليوني مجرة، تغطي أكثر من 90% من عمر الكون. كما استخدم مشروع آخر، هو مبادرة هابل للمجالات العميقة Hubble Deep Fields Initiative، مفعول عدسات الجاذبية ا(لثقالية) Gravitational lensing لدراسة المجرات ذات الانزياح الأحمر المرتفع High-redshift galaxies التي هي أخفت بقدر يتراوح بين 10 إلى 50 مرة من المجرات التي درست سابقاً.
وهناك مجموعة معينة من صور التلسكوب، هي أرصاد هابل للمجال العميق Hubble’s Deep Field Observations، التي شملت ما ربما كان بعض أكثر الصور روعة وإدهاشاً على الإطلاق. وفي ديسمبر 1995، سجّل هابل 342 تعريضاً ضوئياً على مدى عشرة أيام متتالية لمنطقة صغيرة من السماء في كوكبة الدب الأكبر Ursa Major وهي مساحة تغطي تقريباً جزءاً واحداً من 24 مليون جزء من كامل مساحة السماء.
في عام 1998، جرى تصوير منطقة مشابهة من سماء نصف الكرة الجنوبي في كوكبة الطوقان Tucana ضمن مشروع مجال هابل الجنوبي العميق Hubble Deep Field South.
وفي عام 2004 غطت صورة مجال هابل فائق العمق Hubble Ultra-Deep Field مساحة صغيرة في كوكبة الكور Fornax تحوي 10000 مجرة. وكانت هذه أدق صورة فلكية وأكثرها حساسية ضمن نطاق موجات الضوء المرئي التي التقطت حتى عام 2012 عندما نشرت صورة مجال هابل سحيق العمق Hubble eXtreme Deep Field ، والتي غطت مجرد جزء من صورة المجال فائق العمق Ultra-Deep Field.
تسجيل الأعمال
مع هذا القدر من المعلومات لاحتوائها، أُسس مشروع إرث هابل Hubble Heritage Project في عام 1998، وفي السنة التالية أطلقت إيسا مركز معلومات هابل Hubble Information Centre التابع لها. ويختار هذان المشروعان صوراً من إنتاج هابل لمعالجتها وإصدارها، وإنتاج نشرات إخبارية وإعلامية عنها، وهي هذه الصور التي أثارت حماس الجمهور، واحتفي بها بسبب “إسهامها البارز في رفع إدراك الجمهور وتقديره لعلوم الفلك”.
لقد صار الكثير من صور هابل أيقونات ثقافية، لا تظهر فقط في كتب العلوم، بل على كل شيء: بدءاً من أغلفة الألبومات إلى فناجين القهوة. ولم يسبق لمهمة فضائية أخرى أن فتحت عيوننا على تنوع وتعقيد الفضاء وجماله البالغ كما فعل هابل.
بعد 30 عاماً من العمل، ما زال هابل قادراً على العطاء بقوة، ومن المقدر له أن يستمر بعمله حتى عام 2030 أو 2040. وعلى مدى ثلاثة عقود من حياته، نفذ هابل أكثر من مليون عملية رصد، ونشرت بياناته في أكثر من 16 ألف بحث علمي خضع لمراجعة الأقران Peer-reviewed، يجري العودة إليها كمرجع بمعدل 150 مرة يومياً. وفي عام 2017 أعلنت الحكومة الأمريكية أنها تنظر في مسألة تنفيذ مهمات صيانة مستقبلية أخرى لتزيد من حياة هذا التلسكوب الأيقوني الذي وسّع نظرتنا إلى الكون.
تعليق واحد