أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فلك وعلم الكونيات

ضبط إيقاع قلب الشمس

أُطلق مسبار سولر أوربتر Solar Orbiter التابع لوكالة الفضاء الأوروبية جولة أوائل شهر فبراير 2020 في بعثة ستأخذه إلى نقطة قريبة جداً من الشمس. يأخذنا مايكل لاخمان Michael Lachmann في رحلة في العلوم التي تقف خلف هذا المسبار.

في تاريخ 5 فبراير، وقبل منتصف الليل، انطلق صاروخ أطلس 5 Atlas 5 من قاعدة كيب كينيدي في ولاية فلوريدا حاملاً على متنه مسبار سولر أوربتر Solar Orbiter التابع لوكالة الفضاء الأوروبية ESA الذي يمثل أحد أكثر المركبات الفضائية طموحاً حتى الآن.

تهدف البعثة إلى دراسة الغلاف الشمسي Heliosphere، وهي الفقاعة التي تنتجها الرياح الشمسية في الفضاء- تيار من الجسيمات المشحونة Charged particles التي تتدفق باستمرار من الشمس. والغلاف الشمسي هائل الحجم. فهو يمتد ليحيط بالأرض ويتجاوزها إلى ما وراء الكوكب القزم بلوتو.

للغلاف الشمسي تأثيرات بعيدة المدى في جميع كواكب المجموعة الشمسية، وكما تشرح لوسي غرين Lucie Green، وهي أحد العلماء القائمين على البعثة، فإن دراسته تعني الانطلاق إلى قلب المجموعة الشمسية -أحد أكثر الأماكن عدائية.

تقول لوسي: «ما نريده هو الوصول إلى نقطة قريبة من الشمس، بحيث نستطيع قياس المادة وهي تغادر سطحها، قبل أن تتغير طبيعتها وتتطور».

كي تصل المركبة إلى مسافة قريبة من الشمس لجمع تلك البيانات ستنفذ ثلاث مناورات للاستفادة من دعم الجاذبية Gravity assistance، فتدور مرتين حول كوكب الزهرة، ومرة واحدة حول الأرض، وذلك من أجل الدخول في مدار إهليجي Elliptical orbit متطرف مدته 180 يوماً يصل به عند أقرب نقطة من الشمس ليكون على بعد 42 مليون كم فقط.

 سيمنحنا المسبار أقرب رصد لسطح الشمس على الإطلاق، وسيسمح لنا باستكشاف مناطق لم نرها من قبل. ومع تقدم مراحل عمل البعثة؛ سيزداد ميل مدار المركبة باستمرار، ليرفعها أعلى فأعلى فوق مستوى مدار الكواكب لتتمكن من النظر إلى مناطق الشمس القطبية التي لم تشاهد من قبل.

استشعار الحرارة

في هذه المناطق القريبة من الشمس ستتعرض المركبة إلى حرارة تزيد على 500 °س. وكان تصميم مركبة -يمكنها تحمل هذه الظروف طوال مدة البعثة التي خطط لها لتكون سبع سنوات مع إمكان تمديدها إلى عشر سنوات- تحدياً هائلاً.

يقول آلكس جاكوبس Alex Jacobs، وهو اختصاصي نظم الحرارة لدى منظومات إيرباص الفضائية Airbus Space Systems والمقاول الرئيس للمشروع: «إنها بعثة غريبة تجمع المتناقضات. فقد كان أحد التحديات الكبيرة هو قطعها لمسافة كبيرة مثل هذه. فهي تصل نقطة قريبة لا تصدق من الشمس داخل مدار كوكب عطارد مباشرة عند نقطة اقترابه الأدنى من الشمس، والتي تبلغ 0.28 وحدة فلكية Astronomical unit (اختصاراً: AU). ولكن المركبة تبدأ رحلتها أيضاً من الأرض، التي هي على مسافة متوسطة من الشمس. ولذا، فعليك أن تصمم المركبة كي تتحمل الحرارة الشديدة جداً عندما تصل قرب الشمس، ولكن بحيث لا تبرد كثيراً عندما تتحرك مبتعدة عن الأرض.

الدرع الحرارية Heat shield للمركبة وسيلة الحماية الرئيسة من حرارة الشمس وستواجه هذه الدرع الشمس مباشرة بصورة دائمة تقريباً لتسمح لبقية جسم المركبة بالاحتماء في ظلها.

صنعت الدرع الحرارية من طبقة ألمنيوم سماكتها 5 سم Honeycomb (شبيهة بأقراص العسل) صممت لتعكس الحرارة في الفضاء. وتتصل الدرع بجسم المركبة سولر أوربتر بعشرة قضبان تيتانيوم صغيرة لخفض توصيل الحرارة Heat transfer. كما تتصل بطبقة أخرى تتكون من 20 صفيحة رقيقة عازلة من التيتانيوم، يمكنها تحمل حرارة 500 °س.

لكن العنصر الأكثر أهمية كان طلاء سطح الدرع. فقد توصل المهندسون إلى أن سطح الدرع يجب أن يكون أسود اللون ليستطيع امتصاص حرارة الشمس ويعيد إطلاقها في الفضاء. وكان من الأهمية أن تتحمل المادةُ شدةَ حرارة الشمس طوال مدة السنوات العشر في الفضاء، بينما تحافظ على أدائها الكامل دون أن تضعف، أو تطلق أي غاز قد يضر بعمل المعدات.

ولصنع هذا الطلاء، اتجهت الوكالة الفضائية الأوروبية إلى شركة Enbio الإيرلندية لصناعة الأدوات الطبية والتي أنتجت محلولاً يدعى بسولر بلاك SolarBlack يجمع أحدث وأقدم التقنيات البشرية معاً.

وكما يشرح مؤسس شركة Enbio ومديرها التنفيذي CEO جون أودونوغ John O’Donoghue، فقد طورت التقنية كأسلوب لطلاء عمليات زرع الأعضاء الجراحية: «هذه تقنية طورت من أجل الفضاء الداخلي داخل الجسم لكنها الآن تستخدم في الفضاء الخارجي».

ثبات حقيقي 

تشمل التقنية المطورة من قبل شركة Enbio إستخدام تقنية تفتيت الصخر بالهواء الساخن Grit blasting لنزع طبقة الأكسيد السطحي عن المعدن واستبدالها بمادة طلاء جديد يرتبط جذريّاً وبصورة دائمة بمعدن التيتانيوم، لينتج بذلك سطحاً مستقراً وشديد التحمل.

ويشرح أودونوغ: «إن الميزة الكبرى هي أن الطبقة الجديدة تبلغ حد الالتحام بدلاً من كونها مجرد طلاء أو لاصق فقط على المعدن. أي إنها تصير جزءاً فعلياً من المعدن».

ومن المدهش أن مادة الطلاء الأفضل التي اكتشفتها الشركة Enbio قد اشتملت على مادة استخدمها البشر منذ عصور ما قبل التاريخ هي العظام المحترقة. فقبل نحو 30 ألف سنة، استخدم فنانو العصر الحجري عظام الحيوانات المتفحمة لرسم مشاهد الصيد الدرامية وصور الحيوانات على جدران كهوفهم، كما في موقع التراث العالمي World Heritage كهف شوفيه Chauvet Cave بفرنسا (الصورة في الأعلى). وسبب صمود هذه الصور إلى يومنا هذا هو قابلية التحمل العالية المعروفة للعظام المحترقة.

يقول أودونوغ: «إنها مادة شديدة التماسك، سوداء اللون، وتمتص الحرارة دون أن تتضرر. فقد استهلكت كامل قيمتها الحرارية Calorific value، ولذا فهي لا تتفاعل. إنها تستطيع تحمل حرارة مرتفعة تصل إلى 1400 °س».

وقدرة التحمل هذه التي جعلتها سطحاً مثالياً لدرع مسبار سولر أوربتر الحرارية.

يجب أن تكون الدرع الحرارية عند انتهاء صنعها عالية الكفاءة لدرجة أنها تشتت %99.9 من كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس. وبينما تبلغ الحرارة على السطح الأمامي 500 °س، نجد أنها لا تزيد على 50 °س عند طرفها الداخلي، وذلك لتسمح لمعدات المركبة بالعمل بأمان بدرجة حرارة قريبة من درجة حرارة الغرفة العادية.

جُهز مسبار سولر أوربتر بمجموعتين من المعدات: أربعة أجهزة ستقيس الرياح الشمسية في المنطقة المحيطة مباشرة بالمركبة لتحلل تركيبتها وتحدد كيف تتغير على مسافات مختلفة من الشمس.

ثبت معظم هذه الأدوات خارج المركبة وعلى الذراع الطويلة التي تمتد بطول 4.4 متراً خلفها. وفي هذا الطرف من المركبة، وعلى مسافة أمتار قليلة فقط من الحرارة الحارقة عند واجهة الدرع الحرارية، ستكون الحرارة منخفضة جداً لدرجة أن المعدات العملية ستكون بحاجة إلى تدفئة تحفظ الحرارة اللازمة لعملها.

أما معدات الاستشعار عن بعد الستة الأخرى؛ فهي مجموعة منتقاة من كاميرات وتلسكوبات لدراسة الشمس من عدة أطوال موجية. ولكن كي تتمكن المعدات من رصد السمات Features الشمسية، فهي ستحتاج إلى أن تنظر عبر الدرع الحرارية، ولذا لكل منهما قناة خاصة تمر عبر الدرع ويحميها باب منزلق Sliding door يفتح فقط عندما تجمع هذه المعدات قياساتها.

ستنظر معدات الاستشعار عن بعد بحثاً عن مصدر الرياح الشمسية والسمات المغناطيسية اللحظية على سطح الشمس مثل الحلقات الإكليلية Coronal loops التي تحمل أقواساً من البلازما شديدة الحرارة إلى ارتفاعات عالية فوق السطح وتكون غالباً مصدر الاندفاعات الهائلة للمادة التي تعرف بالانبعاثات الكتلية الإكليلية Coronal mass ejections.

سمات السطح

كان أحد الأهداف الرئيسة للبعثة هو فهم كيف تتطور هذه السمات مع الوقت. ومع اقتراب المركبة من أدنى مسافة لها من الشمس مع كل دورة لها حولها، فإن دورتها ستماثل معدل دوران الشمس حول نفسها، لتحوم بذلك بشكل فعال فوق القطاع نفسه من سطح الشمس طوال عدة أيام؛ فتسمح لمعداتها برصد السمات السطحية أثناء حدوثها وتطورها.

تقول لوسي غرين Lucie Green: «ما أريد معرفته هو كيف يتطور المجال المغناطيس ضمن الانبعاثات الكتلية الإكليلية الصاعدة. نعلم أنه كلما كان طالت مدة رصدنا، كان ذلك أفضل».

فعبر مدة عمل البعثة، فمن المتوقع أن يحدث مسبار سولر أوربتر ثورة في فهمنا لآلية عمل الرياح الشمسية والغلاف الشمسي، خاصة أنه لن يعمل بمفرده هناك.

فوكالة الفضاء الأمريكية ناسا لديها مركبة أيضاً في مدار قريب من الشمس هو مسبار باركر الشمسي Parker Solar Probe الذي أطلقته في شهر أغسطس من عام 2018، في بعثة جريئة أيضاً لدراسة مصدر الرياح الشمسية.

يمضي مسبار باركر في مهمته منطلقاً بسرعة 109 كم/ثانية ليكون بذلك أسرع مركبة فضائية صنعت على الإطلاق. وفي يوم 20 يناير الماضي عَبَر على مقربة من 20 مليون كم من سطح الشمس، أي أقرب إليها أكثر من أي مركبة أخرى في السابق. وفي الوقت الذي سينجز فيه دوراته الأخيرة حول الشمس في عام 2025، سيعبر المسبار من على بعد 6 مليون كم فقط فوق سطحها ليحلق حينها عبر الطبقات الخارجية للإكليل نفسها. وفي هذه المناطق القريبة جداً من الشمس، ستتعرض المركبة إلى حرارة تبلغ 1400 °س. وسيكون الإشعاع بالغ الشدة لدرجة يستحيل معها التقاط صور للشمس نفسها. بدلاً من ذلك، سيجري المسبار قياسات مفصلة لمجال الشمس المغناطيسي، ويأخذ عينات لجسيمات الريح الشمسية من مصدرها عندما تبدأ تسارع رحلتها خارجاً إلى المجموعة الشمسية.

وبالجمع بين بيانات معدات كلا المسبارين، سولر أوربتر وباركر، يأمل العلماء بأن يستطيعوا فهم كيف تتشكل الرياح الشمسية، وتبقى تحت سيطرة الشمس، وسيعرفون آلية تطورها عندما تتحرك بعيداً عن الشمس.

تقول لوسي غرين: «للرياح الشمسية تأثير كبير في سائر المجموعة الشمسية. فالغلاف الشمسي مهمٌ حقاً بالنسبة إلى الكواكب. إنها تلك الرياح القوية في الغلاف الشمسي التي تجرد المريخ من غلافه الغازي، وهي تلك التغيرات في الغلاف الشمسي التي تؤدي إلى تأثر الأرض بالطقس الفضائي حولها، وهذا كله يبدأ من الشمس».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى